الطيب مصطفى

دردشة مع مناضل !

لا نزال، ولليوم الثاني على التوالي، (ندردش) مع (المناضل) الذي ظن أن الأكاذيب التي أدمنوها ستنطلي على القراء، فقال مخاطباً إياي : (يا زول انت لسع ما شبعت من لحمنا ده ؟ يا زول هوي انت الناس الماتوا في الجنوب بالآلاف جوعاً وقتلاً وسحلاً واغتصاباً ديل كلهم ما هزوا فيك شعرة؟)، وكأني أنا الذي أطبقت على من ماتوا في الجنوب بسيفي ناسياً أنهم سعوا لحتوفهم بأظلافهم حين اختاروا، وبالإجماع، الانفصال الذي ظلوا يسعون إليه، بعد أن أطلقوا عليه (الاستقلال) من الاستعمار الشمالي، منذ مؤتمر جوبا عام 1947 بل قبل ذلك إلى أن تحقق لهم ما أرادوا باستفتاء أجمعوا خلاله على (فرز عيشتهم) منا حيث احتفلوا ونحروا الذبائح وسكروا وطربوا ولا يزال كبيرهم ورئيسهم سلفاكير حتى بعد أن فتكوا ببعضهم بعضاً وحتى بعد أن أحالوا بلادهم إلى محرقة وساحة للموت اضطرتهم إلى الهروب منها إلى الشمال الذي أبغضوه واحتفلوا بفراقه، أقول لا يزال رئيسهم سلفاكير يعبر عن فرحه بالانفصال ويؤكد أنهم ليسوا نادمين عليه .. أما سؤال ذلك.(المناضل): (يا زول انت لسع ما شبعت من لحمنا ده)، فقد قالها بعد أن رماني بدائه وانسل – كالشعرة من العجين – ذلك أنه وزعيمه عبد الواحد محمد نور الذي ظل يشعل الفتنة ويحرض طلاب دارفور ومواطنيها المشردين في معسكرات النزوح والذل والعار على التمرد من فندقه الفخيم في باريس هم الأولى بالسؤال بعد أن ولغ بعض طلابه المتمردين في دماء شرطة الدويم بجامعة بخت الرضا وكما ظلوا يفعلون في معظم الجامعات السودانية التي ظلوا يمارسون فيها هواية التوحش قتلاً لرجال الشرطة وللطلاب وإحراقاً للمنشآت وتعطيلاً للدراسة.

لم أدهش لربط ذلك الكويتب بين أحداث جامعة بخت الرضا وبين تمردهم في دارفور وما حدث في جنوب السودان وهذه تحتاج إلى وقفة توضيحية.

أفتأ أردّد أن ما جمع بين عبد الواحد محمد نور وجون قرنق قضية واحدة تتمثل في مشروع السودان الجديد العنصري، ولعل أكبر دليل على ذلك أن عبد الواحد أخذ نفس الاسم تقريباً الذي أطلقه قرنق على حركته فسماها (حركة تحرير السودان)، بينما سمى قرنق حركته باسم (الحركة الشعبية لتحرير السودان)! تحريره مِنْ مَن يا تُرى؟! كلا الرجلين ينهل من مستنقع عنصري علماني واحد هو الدعوة إلى الأفريقانية اقتفاء لأثر مانديلا الذي اتخذاه رسولاً للتحرير من الآخر (المستعمر) وذلك ما ظل قرنق يعمل من أجله حتى هلك ووثقه في دستوره وأدبياته التي استعرضناها مرارًا وتكرارًا .. راجع ورقة قرنق حول التنوع السوداني The (Sudanese diversity)

من يدرك ذلك، يعلم لماذا ظللنا، منذ انفصال الجنوب، نُريق مداداً كثيرًا وكثيفاً ضد تمردات دارفور بما فيها التمردات الطلابية، ذلك أن من أهم القضايا التي أنشأنا من أجلها منبر السلام العادل الدفاع عن هوية هذه البلاد التي لم ينشأ مشروع يهدف إلى استئصالها منذ الاستقلال أخطر من مشروع السودان الجديد الذي أقامه قرنق ووظّف له بعض القيادات العنصرية في المناطق التي اعتبرها مناهضة لهوية الشمال (الإسلامية العربية الأفريقية) – وليس الأفريقية فحسب.

استخدم هؤلاء العنصريون عدداً من (الآليات) والميكانيزمات لتفجير الصراع وإشعال الثورة من بينها نظرية الصراع بين المركز والهامش، وهذا حديث يطول.

شغلتْني هذه الجزئية عن مواصلة الرد على (المناضل) المدلّس الذي ظن أن نشر الأكاذيب في الأسافير سيحقق له ما أراد، ولكن الرجل نسي أن حبل الكذب قصير !

أرجع لأتساءل: هل نسي ذلك (المناضل) ما حدث لرفيقه باقان أموم الذي قال عشية مغادرة السودان إلى جنته الموعودة (ارتحنا من وسخ الخرطوم) و (باي باي للعبودية) و (باي باي للعرب)؟ أين باقان أموم الآن؟ ألم يفر من بلاده إلى أمريكا بعد أن أوشك أن يفقد حياته وبعد أن تعرض للسجن والتنكيل من قبل رفاق النضال؟!

كُنا أبعد نظراً لأننا كُنا نعلم أن ابناء الجنوب لن يصبروا على بعضهم البعض وسينزلقون إلى حروب أشد فتكاً من الحرب التي نشبت بين الشمال والجنوب على مدى نصف قرن من الزمان وحدث ما توقّعناه .. ذلك ما كُنا ندندن حوله منذ زمن، أن مَن يعجزون عن التعايش مع بعضهم بعضاً لن يتعايشوا مع الشمال وستستمر الحرب بين الشمال والجنوب ربما إلى الأبد، وذلك ما دعانا إلى طرح رؤيتنا بحل (الطلاق) بين الشمال والجنوب سيما وأن الانفصال جُرّب بنجاح تام في عدد كبير من الدول لم ترَق بين معظم شعوبها المنفصلة عن بعضها قطرة دم واحدة.

لم نكن نصدر، أيها المدلس، عن كراهية للعنصر الجنوبي كتلك التي يضمرها الجنوبيون للشماليين فلسنا عنصريين سيما وأن اللون الأسود جزء من أسرتي وموجود ببن إخواني وأبنائي وأهلي فضلاً عن أن اكتمال إيماني يلزمني بأن أنأى عن العنصرية التي سمّاها ديننا بالجاهلية.

أعلم أن هناك حملة شيطنة موجّهة لشخصي اعتدتُ عليها منذ أن جهرت بدعوتي إلى تصحيح الخطأ التاريخي الذي ورّطنا فيه المستعمر الإنجليزي حين زوَّجوا القط من الفار والشحمة من النار والليل من النهار من خلال ضم الجنوب إلى الشمال.

بعض المشيطنين لم يتردد في اتهامي بالدعوة إلى فصل دارفور بالرغم من أني أعلنت قبل سنوات استعدادنا لدعم أي مبادرة من الأحزاب السياسية للتوافق على رئيس جمهورية من أبناء دارفور حتى نسحب البساط من تحت أرجل لوردات حربها الضروس الذين أنهكوا البلاد بتمرداتهم التي قتلت أهليهم وشردت نساءهم وأطفالهم وشيوخهم ودمرت المنشآت القائمة ورغم ذلك لم يفكروا في لجم أنفسهم العطشى للدماء والأشلاء بل تمادوا في ممارسة هواية القتل وإشعال الحرائق التي نقلوها إلى الجامعات بعد أن هُزموا في ميادين القتال.

إنه التلبيس والتدليس، فمن يقارن بين مشكلة الجنوب التي بدأت قبل الاستقلال ومشكلة دارفور كمن يقارن بين السرطان والصداع، ذلك أن الجنوب ظل يقاتل من أجل الانفصال منذ أن أقره مؤتمر جوبا عام 1947 والذي زوّره واعترف بذلك السكرتير الإداري الاستعماري جيمس روبرتسون الذي رأس ذلك المؤتمر، أما دارفور فلا يوجد حزب واحد يجرؤ على المطالبة بالانفصال عن السودان فكيف يكون ذلك من أجندتنا أيها المدلِّسون؟!

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة