جعفر عباس

من الخائن الأكبر؟ كُلك نظر!


تتسم ممارسات وطقوس الزواج في السودان بالتعقيد الشديد والكلفة المرتفعة، وتكون البداية بـ»فتح الخشم«، الذي هو عندنا الفم، ويقوم بمهمة فتح الخشم الذي هو الفم، أهل العريس أي طالب الزواج، ولا يتم ذلك – كما توحي العبارة – بفتح فم العروس للتأكد من أنها شابة بفحص أسنانها كما يفعل من يشترون الخراف، للإيحاء للبائع بأنهم ملمون بالعلوم البيطرية، بل يتم بأن يفتحوا خشومهم التي هي ليست أنوفهم طالبين يد العروس في ما يسمى بـ»قولة خير«، أي إن كل ما هو مطلوب من أهل البنت لتنطلق مراسيم الزواج هو أن يقولوا »إن شاء الله خير«، وبعدها تتوالى تحركات مريبة ومعقدة من بينها تقديم شبكة، ومهر وملابس، ومواد تموينية، نعم فعلى العريس أن يقدم لأهل العروس الرز والدقيق والزيت والعدس والسمن وربما الزبادي والكتشاب، وملابس العروس تكون بنظام الأطقم: مثلاً 12 قطعة من كل نوع من أنواع الملابس النسائية وعليها بعض المشغولات الذهبية والعطور، ولا تحسب أن كلمة عطور هنا تعني فقط ما هو جاهز ومطروح في الأسواق سواء كان من صنع فرنسا أو بوركينا فاسو، بل يقوم أهل العروس بإعداد كوكتيل عطري قوي الرائحة بدرجة أنه لو تسلل إلى خياشيم شخص يعاني من الربو التحسسي فـ»الدوام لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون«، لأنه يتألف من أعلاف وأخشاب مستوردة من الهند والسند ومعها أظافر كائن بحري، ويتم طحنها وإضافة عطر فرنسي لا تجده في غير السودان فتكون النتيجة سائلا يسمونه »الخُمْرة« – بضم الخاء وتسكين الميم – ولعلها مشتقة من خَمّر يخمر تخميرا.

وهناك ليلة الحنة التي يحتفل بها كل طرف بطريقته الخاصة، ثم تأتي الليلة الكبيرة بوليمتها وزغاريدها وأهازيجها وتعقبها »الصبحية« وهي أيضًا حفل عام تراق فيه دماء العجول والخراف، وهناك السيرة وهي زفة العروسين، ولا تكون داخل مبنى كما هو الحال في الدول العربية، بل باستئجار حافلات ضخمة تطوف بأقارب العروسين أرجاء المدينة وتغني خلالها البنات أهازيج معينة، وكان هناك »قطع الرَّحَط« – لم يعد يمارس في المدن – وهو طقس إفريقي محض يرمز إلى فراق العروس دنيا الآنسات ودخولها دنيا السيدات، وبانتهاء تلك المراسيم يتم نقل معظم العرسان إلى المستشفيات للعلاج من الإرهاق العضوي والسهر أو مخافر الشرطة بتهمة إصدار شيكات دون رصيد.

قبل بضعة أسابيع سافر شاب سوداني يعمل في دولة خليجية إلى أرض الوطن لإتمام مراسيم زواجه بالفتاة التي خطبها قبل عدة سنوات، وتوجه مع أهله إلى بيت العروس للاتفاق على الجدول الزمني لمراسيم الزواج، فصاح أهل الفتاة في وجهه: أخرج من بيتنا يا قليل الحياء! هل تحسب بنتنا بائرة لتتزوجها بالأوانطة؟ ما حدث هو أن العريس كان قد أرسل قبل أشهر حقائب ممتلئة بالملابس والهدايا لعروسه مع أحد أصدقائه كسبًا للوقت، ولكن الصديق »نام« بالحقائب أي صادرها لمصلحته الشخصية ولم تتسلمها العروس كما افترض العريس المرتقب!!

صديق خائن؟ نعم ولكنه ليس أكثر خيانة من أبطال أحداث 11 سبتمبر 2001. وهي وحدة الإطفاء في مدينة نيويورك التي استبسل رجالها في إنقاذ من كانوا في البرجين ومات منهم 343 فردًا، فتم تكليف بعضهم برعاية أسر من ماتوا من زملائهم الاطفائيين، وتولى جيري كوينج أمور أسرة صديقه الراحل جون بيرجن، يوصل عياله إلى المدارس ويشتري لأرملته مستلزمات الأكل ويتولى أمور صيانة البيت، وكل ما يعلق بشؤون معيشة العائلة، وبلغت به روح التضحية والوفاء أن صار يقوم مقام صديقه الراحل في فراش الزوجية، إلى أن اكتشفت زوجته الأمر وفضحته عبر صحيفة نيويورك بوست، فكان أن وجدت 12 من زوجات الإطفائيين الشجاعة ليحكين كيف أن أزواجهن أقمن علاقات فراش مع زوجات من قتلوا في حادث البرجين في 11 سبتمبر!! وهكذا يتضح أن خيانة الأمانة نسبية، فالزول استولى على ملابس عروس صديقه، في حين أن خواجات إطفائية نيويورك استولوا على عرائس أصدقائهم أنفسهن.

زاوية غائمة
جعفر عباس