مقالات متنوعة

ما شغلتنا .. لكن الظروف جبرتنا


كان لابد لي من التكيف مع الحي الجديد .. يعني لازم (أسعى) لي بتاع خدار وبتاع لبن.. وزول تحويل رصيد.. بالأمس توجهت للجزارة.. أهل الحي يعرفون بعضهم البعض.. يسألون عن الأحوال.. وكيف الحاجة إن شاء الله بلغت الصحة.. وكنت أنا الوجه الجديد الذي يتم إلقاء التحية عليه بحذر.. الجزار كان يعمل بهدوء غريب.. يقطع اللحم ببطء شديد.. يرتدي قفازات.. ويلبس بالطو أبيض.. لكن الناس يتعاملون معه بأريحية.. مما يدل على أنه (طول) قاعد هنا ..
كنت أدير رأسي في أنحاء الجزارة في انتظار أن يحين دوري.. عندما وقع بصري على ملصق إعلاني في الحائط.. أحدهم وضع رقمه.. معلناَ عن مقدرته على ضبط الصحن الهوائي.. وفك شفرات القنوات.. كنت في حوجة له.. ذلك أن الأمطار الأخيرة فعلت فعلتها.. و(طششت) كل القنوات من التلفزيون عندي.. سألت الجزار عندما خلي المكان وبدأ في تجهيز طلبي بهدوئه الغريب (الزول الفي الإعلان دا.. أنت بتعرفه؟؟).. رفع رأسه وقال: (إيوة.. زميل دراسة).. ضحكت وقلت له: (العلاقة شنو بين الجزارة وضبط قنوات التلفزيون؟؟).. قال: (تقولي شنو.. ما شغلتنا لكن الظروف جبرتنا).. عرفت الآن أنك غريب على المهنة هذا البطء الغريب في التقطيع.. أو كما يقول أهلنا (اليد التقيلة).. تذكرت طرفة عن الجزار في حينا القديم في سوق الحصايا في عطبرة.. كان (علي) الجزار إيدو تقيلة.. ولم يكن سريعاً في تلبية طلبات الزبائن كما هي حال عبدالملك جاره وزميله في المهنة.. تململ أحدهم يوماً وسأله (يا علي.. إنت قبل ما تبقى جزار.. كنت شغال شنو أصلو).. فقال جملته التي صارت مثلاً (كنت باشمهندس)..

قالها ساخراً.. لكن أهو يا عم علي.. طلع في باشمهندسين.. بكامل قواهم العقلية.. يشتغلوا جزارين.. لاقيت الكثيرين الذين يحملون شهادات في تخصص.. وذهبوا إلى طريق مختلف.. إن كان عن قصد.. أو (الظروف جبرتنا).. أصبح الأمر عادياً حتى أنه لم يعد ملفتاً للنظر.. حتى وصل قمة الهرم الوظيفي.. الاستوزار.. وهو أن يتم اختيار وزير لوزراة لا علاقة له بها من قريب أو بعيد وهذا من منطلق أن الوزير منصب سياسي.. وليس تدرجاً وظيفياً.. لكن ألا يجب على الوزير متابعة ما يحدث في وزراته..؟؟ على سبيل المثال.. شاهدت قبل أيام مقطعاً من لقاء تلفزيوني للسيد وزير الثروة الحيوانية.. كان الوزير يقول فيه: (هناك تقنيات حديثة في الثروة الحيوانية.. ممكن تخلي البقرة تلد ثلاث مرات في العام).. استغرب المذيع وقال له: (تقصد ثلاثة توائم؟؟ مثلاً؟) أصر الوزير: (لا.. تلد تلات مرات في السنة وممكن أجيب اختصاصيين يشرحوا ليك).. الوزير كان يتحدث عن تقنية (نقل الأجنة) وهي تلقيح بقرة ذات صفات مميزة.. ومن ثم نزع الجنين منها في أطواره الأولى وزرعه في رحم بقرة أخرى لتنجبه بعد اكتمال مدة الحمل كاملة وغير منقوصة.. ومن ثم يتم تهيئة البقرة المنتجة مرة أخرى لتلقيح جديد.. لذلك يا سعادة الوزير.. البقرة التي (أنتجت) ليست هي التي (أنجبت).. فلا يمكن أن تصرح بأنه يمكن جعل البقرة (تلد) ثلاث مرات.. فمدة الحمل هي ذاتها تسعة أشهر.. تقنية نقل الأجنة هي في الأساس لاكتساب صفات محسنة من البقرة المنتجة.. رغم أنها صاحبتها مشاكل كثيرة مثل ثقل حجم الجنين وعدم تحمل البقرة المنجبة له.. لذلك كان التلقيح الاصطناعي من الثور أفضل.. لأنه يعطي فرصة للجينات للانتخاب واختيار المناسب للبيئة المحيطة…

(اتفضلي يا مدام.. طلبك).. والله عشان كلمة مدام دي.. واصل في الجزارة دي.. تسوي بيها شنو الوظيفة عليك الله؟؟ أهو إنت ضامن غداك كل يوم باللحمة الضاني.. ويمكن كمان العشاء كبدة وكوارع.. المشكلة فينا نحن.. لا طلنا بلح الشام ولا عنب اليمن.. يا قول المصاروة (جاتنا نيلة في حظنا الهباب).

صباحكم خير – د ناهد قرناص
صحيفة الجريدة