تحقيقات وتقارير

(قارعين الدمعة بالصنقاعة)

(قارعين الدمعة بالصنقاعة) سمعتها في حديث بين رجلي شرطة أثناء توقف حركة السير.. أحدهما سأل الآخر عامل كيف مع الغلاء ده.. رد عليه الآخر- ويبدو عليه من طريقة حديثه أنه ينتمي الى إحدى قبائل كردفان التي تشتهر بمحاربين أشاوس ماهرين في ركوب الخيل وتشتهر أيضاً بضرب الأمثال العميقة- فهمت الجملة بعد أن زاد عليها قائلاً: (ما قادرين نأكل الأولاد ولا نلبسهم ولا نعالجهم ولا نقريهم)، يقصد أنه حابساً الدمعة في عينه من النزول الى خده برفع الرأس الى أعلى (يصنقع).. حديث هذا الشرطي جعلني أعيد في هذا المقال مقتطفات من مقال نشر في آخر لحظة قبل حوالي عام عن تدهور الاقتصاد ومعاناة المواطنين ومآلات تلك المعاناة قلت في ذلك المقال: تقرير:عمر البكري أبو حراز لا يوجد تعريف علمي دقيق لمصطلح الإنهيار الاقتصادي، لأنه يشير الى وصف حالة عريضة من التدهور الاقتصادي تبدأ بحالة كساد عام متنامٍ تزداد فيه حالات التعثر البنكي والإفلاس والعطالة، وينتهي بانهيار كامل للتجارة بسبب التضخم وفقدان العملة الوطنية لقيمتها.. عادة ينتهي الإنهيار الاقتصادي بفوضى اجتماعية تعقبها حالات تفلتات أمنية وسط المجتمع المدني، وخروج على القانون والنظام، المفضي الى انتفاضة شعبية. سقوط المجتمعات والأنظمة بسبب الإنهيار الاقتصادي يمر بخمس مراحل:المرحلة الأولى: الاقتصاد قوي معافى وسط توفر السلع والخدمات بأسعار في مقدور الغالبية العظمى من أفراد المجتمع، بسبب استقرار قيمة العملة الوطنية وقوتها، كل ذلك تحت مظلة بنية تحتية كاملة وقوية مثل الاتصالات، المواصلات، الكهرباء، المياه، المدارس، المستشفيات وخلافها، وهذا هو التعريف العلمي للرفاهية.. بعد كل هذا الاستقرار الاقتصادي الاجتماعي يتم إغفال استدامة الإنتاج العالي واستغلال الثروات المتاحة الناضبة وتحويلها الى ثروات مستدامة متجددة، مثل تحويل ثروات وعائدات البترول الناضبة الى ثروات مستدامة في الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، وإحلال وإبدال وتأهيل وتنمية البنيات التحتية الإستراتيجية مثل الموانيء البحرية، السكة الحديد، الطيران، النقل البحري والنهري.. من هذا الإغفال تبدأ مراحل الإنهيار الاقتصادي.. هذا ما حدث تماماً في السودان، إذ كانت فترة الست سنوات من 2005 الى 2011 سنوات رفاهية واستقرار اقتصادي، اعتماداً على انتاجية عالية لثروة البترول الناضبة ولم يتم تحويلها الى ثروات مستدامة كما ذكرنا أعلاه، في تلك الفترة استقر سعر العملة الوطنية بين اثنين وثلاثة جنيهات مقابل الدولار.المرحلة الثانية: يمر الاقتصاد بتدهور بطيء لكنه متواصل بانحدار متسارع، تتزامن معه زيادة العطالة، وزيادة الإنفاق الحكومي غير المنتج بصرف المنح للعاملين وزيادة مواعين الحكم لاستيعاب وإرضاء التنظيمات المعارضة المسلحة والمدنية، وبذلك تزيد معدلات التضخم وعجز الموازنة والميزان التجاري مصحوباً بغلاء أسعار السلع والخدمات والمعاملات الحكومية.المرحلة الثالثة: تبدأ مؤشرات الإنهيار الاقتصادي الكامل في الظهور وفيها ترتفع أسعار السلع والخدمات والمعاملات الحكومية بوتائر متسارعة متنامية، تذوب فيها الطبقة الوسطى تدريجياً وتنحدر الى الطبقة الدنيا.. تبدأ الحكومة في طباعة العملة لزيادة الكتلة النقدية حتى تقابل متطلبات إدارة الدولة.. يزداد التضخم وترتفع نسبة البطالة الى أكثر من 25% ويرتفع خط الفقر الى 50%، تتدهور البنوك وتخرج من المقاصات وتفشل في استرداد أموالها وتكثر إعلانات بيع الأصول المرهونة لها.. تبدأ نقابات العاملين في الضغط على الحكومات وتلوح أو تنفذ إضرابات في حالة الأنظمة الديمقراطية، أو تواصل التذمر وعدم الرضا الصامت في حالة الأنظمة الشمولية المدعومة بقوة الأمن حتى تتكون الكتلة الحرجة والعقل الجمعي الذي ينفجر في انتفاضات شعبية عفوية.. في هذه المرحلة تتدهور الخدمات الأساسية الحكومية مثل الكهرباء، المياه، المواصلات والعلاج، التعليم وصحة البيئة مثل جمع النفايات، وتصبح الحكومة غير قادرة على تحمل المتطلبات اليومية لمواطنيها.. تظهر في هذه المرحلة مجموعات متفلتة منظمة للنهب والسلب في الأحياء الطرفية للمدن، وتبذل الحكومة مجهودات مضنية لمحاصرة هذه الظواهر.. ثم تقترب الحكومة من مرحلة اللا عودة الى الاستقرار ورضاء شعبها.. حتى هذه المرحلة يمكن إعادة الأمور الى السيطرة إذا تم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب.. الأشخاص الذين يؤمنون بالمفاهيم الأساسية لمصالحة الشعوب، والمتمثلة في الحرية والعدالة والمساواة، عفة اليد واللسان، الإيمان بأن للمواطنين حقوقاً يجب الإيفاء بها ومراعاتها، كل ذلك في ظل الإعتراف بالفشل في إدارة الإقتصاد حتى وصل الى هذه المرحلة، وهذا الإعتراف بوضع الشخص الصحيح في المكان الصحيح يجعل المواطن يقبل الإجراءات القاسية المترتبة على إعادة الصحة والعافية للاقتصاد.المرحلة الرابعة: إذا لم تتم المعالجة القاسية للتدهور الاقتصادي في مرحلته الثالثة، سوف ينحدر مباشرة وعاجلاً الى المرحلة الرابعة هذه، التي سوف تتسم بزوال الطبقة الوسطى تماماً (عماد المجتمعات)، ويتنامى تفكك الأسر وانحدار الأخلاق، واتساخ المدن في كل شوارعها، وتتزايد حالات السرقة والنهب، وتعم الفوضى، وتتدهور الخدمات، وتختفي السلع، وتصبح العملة الوطنية هي الصعبة، ويبدأ خروج الأفراد القادرين من البلاد، وتجفيف العملات الحرة وهجرتها الى الخارج، ويتحول المجتمع الى فوضى والمدن الى كابوس مزعج من عدم الأمن والأمان.. إزاء ذلك تصدر الحكومة اجراءات مشددة في محاولة للتحكم في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتلجأ الى ترشيد الاستهلاك وإصدار بطاقات التموين، وتحديد كوتات في السلع الأساسية، وتزيد معاناة المواطنين بعد عودة الصفوف الطويلة للحصول على السلع ومواد التموين.المرحلة الخامسة: عادة في هذه المرحلة تعلن الحكومات حالة الطوارئ القصوى لقمع التظاهرات الشعبية العارمة في كل أنحاء البلاد، وتحدث مواجهات دامية تستعمل فيها الحكومة القوة المفرطة، وينشأ نظام شمولي جديد أكثر قوة وشراسة من النظام الذي تسبب في الانهيار، وعندها سيحدث التغيير بتكلفة عالية وإزهاق أرواح عزيزة، ويتدخل المجتمع الدولي والدول المشرئبة للانقضاض على السودان ونظامه..نحن الآن في المرحلة الثالثة التي تقبل المعالجة والعودة الى الرفاهية…

اخر لحظة