مقارنات بين الحاضر وما فات (11)
مثلما يحدث في كثير من البيوت، في بيتي نتناول الوجبات الرئيسية في المطبخ، لنكون قريبين من مصادر الطعام، وربما كي تبقى مائدة الطعام الرئيسية نظيفة تسر الناظرين، كما أواني الطعام الجميلة الصقيلة التي تقبع في خزائن زجاجية، ونشتهي نحن الرجال أن نأكل منها ولكن هيهات، ففيما يبدو هي لـ»العرض« فقط، وقد يتسنى لبعضها ان تلامس الطعام إذا جاء ضيوف »خمسة نجوم«.
والطفرة المهمة في موائد الطعام، هي ان مفارش البلاستيك الرفيعة حلت محل الجرائد على الطاولات والأرض، ليس فقط لأن توزيع الصحف عموما في انحدار عمودي، ولكن لأن مفرش البلاستيك – بعكس ورق الجرائد – يمنع تسرب فضلات الطعام إلى الطاولة / الأرض في مرحلة جمع الحطام )بواقي الأكل(.
والجرائد يا سيداتي وسادتي )قال لنا الإنجليز: ليديز فيرست، أي النساء أولا، وهكذا، وكلما خاطبنا جمعا من الناس قلنا سيداتي سادتي وهناك من يجعل الآنسات حشوة/ سندويتش بين السيدات والسادة(، المهم ان الجرائد تكاد تصبح موضة عصر فات ومطربه مات، ليس فقط – كما يزعم كثيرون – لأن الكمبيوتر وشركاه في الذكاء من هواتف وألواح إلكترونية، تُغني بمحتواها عن الصحف، ولكن لأن الناس ما عادت تقرأ، وإن قرات فعلت ذلك بسرعة على شاشات الأجهزة الإلكترونية، متوقفة – أحيانا – عند »الأخبار« ولا تحفل بأعمدة الراي، رغم أنه لا غنى عنها لمن يريد ان يفهم دلالات الأحداث التي تتضمنها الأخبار، في زمن صارت فيه الصحف منابر للراي أكثر منها منابر للأخبار.
ولا أزعم أن عمودي هذا معني بتحليل الأحداث أو عرض ما بين سطورها، ولكن كان هناك حين من الدهر أتلقى فيها يوميا متوسط عشر رسائل، تحوي تعليقات القراء على ما أكتب، وخلال السنوات الأخيرة صار بريدي الإلكتروني قاعا صفصفا، وقد تمر شهور دون أن يتعطّف علي قارئ بكلمة ولو كانت سبابا، وتصلني بين الحين والآخر رسالة من قارئ في موريتانيا أو السويد يناقشني حول ما كتبت، أما القراء في البحرين فقد صاروا يتجاهلونني تماما، عيب يا جماعة فقد أكملت هنا 15 سنة فكيف تهون عليكم العُشرة، فمن يراسلونني كل بضعة أشهر من العراق أو واق الواق يقرأون النسخة الإلكترونية من الصحيفة، فما بال من يقرأون النسخة الورقية، وبالتأكيد هناك الآلاف منهم، وإلا لكانت أخبار الخليج قد قامت بتصفية نفسها؟ عندما طنشت المحبوبة عبدالحليم حافظ، كما طنشني القراء، وقف على المسرح وصاح: قول لي حاجة/ أي حاجة/قول بحبك/ قول كرهتك/ قول لي عايزك/ قول لي بِعتك )لو قال لي قارئ إنه »باعني« فسأستعين بهاكر لأقتحم كمبيوتره وهاتفه لأفسده فيضطر لبيعه كما باعني(.
تقنيات العصر الحديث جعلت حتى أشياء حديثة في خبر كان، فهاتف البلاكبيري مثلا، كان حتى قبل سنوات قليلة، جهازا واجب الحيازة، يسمح بتبادل الرسائل النصية بلا مقابل، ثم راح فيها بعد ظهور الهواتف الأكثر ذكاء )شخصيا ما زلت احتفظ بنحو 4 هواتف نوكيا من باب حفظ الجميل، وعلى أمل ان يستفيد منها ورثتي بعد نحو مائة عام – إذا لم تقم القيامة – فيبيعونها بمبالغ ضخمة لأنها ستكون تحفا ذات قيمة تاريخية عالية(، ولكن الزعم بأن تلك التقنيات ستقضي على الصحف لا يقوم على أساس، فقد قيل ان الإذاعات ستختفي بظهور التلفزيون، ولكنها لا تزال أكثر كفاءة من التلفزيون من الناحية المهنية على الأقل، ولها جمهورها العريض.
والتلفزيون والراديو حرما الصحف من السبق الأخباري، ولكن وكما قلت أعلاه، فإن الصحف ستظل ساحة »الرأي /التحليل« الذي يعطي الأخبار عمقا ومحتوى ويشرح مآلات الأمور، وسيظل أبناء وبنات جيلي يحبون كل ما هو مطبوع على الورق، وسنشتري الصحف والكتب ونقرأها مستمتعين بتقليب أوراقها، وخلّكم يا شباب مع واتساب الذي جعلتموه بديلا للكتاب وهو ليس كذلك لذوي الألباب.
زاوية غائمة
جعفر عباس