جعفر عباس

مقارنات بين الحاضر وما فات (13)


‏ذهبت مع عائلتي إلى تشيكوسلوفاكيا في عام 1991. وكانت تلك أول مرة تسافر فيها أم الجعافر/ أم المعارك، خارج الزريبة العربية، وكان علينا استقلال قطار كي نصل إلى محطة كان ينتظرنا فيه صديق لي مع عائلته، في العاصمة براغ، )هي »براق« بالقاف اليمنية، أي غير المقلقلة واسمها أيضا »براها«( ولسوء حظنا كانت تلك المحطة على عمق نحو مائة متر تحت سطح الأرض، وكان الخروج منها يتطلب استخدام سلم كهربائي متحرك يتعذر رؤية أكثر من نصف طوله، وبكل كبرياء وشمم رفضت زوجتي الصعود على السلم.

طيب وما العمل يا ست النساء؟ قالت نرجع إلى المحطة التي كنا فيها و»نلاقي أصحابك لما ربنا يسهل«، واستغرق الأمر قرابة ساعة لإقناعها بأنه لا سبيل إلى الوصول إلى الفندق الذي كان مقررا ان نقيم فيه إلا بركوب »الصعب«، الذي هو السلم الأفعواني المخيف، وبنفس الطريقة التي تُعلِّم بها الطفل الصغير المشي، أمسكت زوجة صديقي بيدها اليسرى وطلبت منها ان تمسك حافة السلم بيدها اليمني، فحلفت زوجتي بالطلاق بأنها لن تضع يدها في اي جزء من السلم، فجعلناها انا وزوجة صديقي بين قوسين – أي هي ممسكة بيد وأنا بأخرى، وانطلقنا وهي تلعن التشيك والسلوفاك والصرب والكروات، ولما قيل لها لاحقا إن السوفييت هم من شيدوا أنفاق القطارات في براغ، صاحت: ربنا انتقم منهم ودولتهم طارت وراحت في ستين داهية.

لم أمارس التريقة على زوجتي، لأنني ارتكبت فضائح فاحت روائحها في الجزر البريطانية، قبل ذلك بسنوات، في أول مرة أتعامل فيها مع السلم الكهربائي عندما وصلت مطار هيثرو في لندن، في أول زيارة لي لبلد غير عربي، فقد كنت ممسكا بكيس فيه بضع حبات من المانجو )هذه كلمة إنجليزية، والعرب أتوا بتلك الفاكهة من الهند حيث تسمى »منقه« بالقاف اليمنية، ويسمونها أيضا هَمبا(، وصعدت السلم بعد أن قرأت سورة يس كاملة، ممسكا كيس المنقه بيد، وحافة السلم بالأخرى، وبعد ثوان معدودة، فقدت توازني فكانت الطامة، فحلاوة الروح جعلتني أمسك بطرف ثوب سيدة كانت أمامي، فتمايل كلانا وطاحت المنقه وفاح أريج عصيرها في جنبات المطار، وفجأة دوت انفجارات متقطعة وتوقف السلم عن الحركة، وأدركت لاحقا أن عصير المنقة تسرب إلى تلافيف السلم، فحدث التماس كهربائي عطله، وأجمل ما في الموضوع أن سلطات المطار لم تلزمني بتحمل نفقات إصلاح السلم، ربما لأنه كان واضحا من هيئتي أنني من هو بحاجة إلى سمكرة و»إصلاح«، ولكن العشرات كانوا ينظرون إليّ باحتقار واستنكار. المهم أن العيش في لندن أرغمني على التعود على استخدام السلم الكهربائي يوميا، وعندما عدت إلى السودان وتباهيت بتلك التجربة، اعتبرني كثيرون »خراطا«: سلم يمشي وانت واقف عليه ويطلعك وينزلك؟ فقط في أفلام هوليوود للخيال العلمي.

وسبحان الله نفس السيدة التي فضحتنا في براغ، وفضلت مغادرة تشيكوسلوفاكيا قبل أن تمضي فيها ثلاث ساعات، لتفادي استخدام السلم الكهربائي، صارت اليوم، تضع رجليها على السلم برشاقة يحسدها عليها ليونيل ميسي، ولكنني ولكنها ننتمي إلى جيل يعتقد ان قول نيوتن أن حجم الكتلة يزيد من قوة الجاذبية، المقصود منه أنه كلما كان الإنسان سمينا بدينا دُبًّا، كلما جذب الجنس الآخر وحاز على اعجابه.

وقبل نحو شهرين عدنا من زيارة لكندا، ولكن ما ان اكتشفنا انا وهي أننا نجلس في الطابق العلوي لطائرة إيرباص، حتى أصيب كلانا بالشلل الرعاش، وعجزنا حتى عن قراءة الفاتحة على روحينا، والجميل في الخوف الشديد أنه يشل التفكير والاحساس، فقد دخلنا في »كوما« أي غيبوبة إرادية، حتى هبطت الطائرة، فتحسس كل منا جسمه، وتبادلنا نظرات الفرح العارم، لأن الله نجانا من الهلاك في مركبة مكانها البحار، وليس الفضاء.

زاوية غائمة
جعفر عباس