السودان .. أفكار وتطوير التعليم العسكري
– للتعليم أهمية كبيرة في حياة كل الأمم والشعوب، وهو من المعايير المحورية في تحديد مدى تقدم الدول أو تأخرها، فضلاً عن أن هناك أبحاثاً ودراسات كثيرة تتحدث عن الأهمية الاقتصادية للتعليم، ودور التعليم في تكوين رأس المال البشري، من خلال ربطه بالتنمية الاقتصادية.
– لعلنا نذكر هنا بكتابات “آدم سميث” الذي إعتبر العلوم والمعارف المكتسبة جزءاً من ثروة المجتمع، وقد بات لدينا في حقل الدراسات الإقتصادية فرع مستقل يعرف بـ”إقتصاديات التعليم”، وهو فرع من فروع علم الإقتصاد، يلقي الضوء على أفضل الطرق في إستثمار الموارد التعليمية البشرية والمالية والتكنولوجية من أجل تكوين رأس المال البشري تكويناً شاملاً، في الحاضر والمستقبل، على مستوى الفرد والمجتمع.
– ويعدُ التعليم في القوات المسلحة ركناً مهماً وعاملاً أساسياً في تطورها وتقدمها، ولاسيما في ظل التطورات التقنية التي شهدها العالم في كل المجالات وإنعكاس ذلك على القوات المسلحة، سواء من حيث الأسلحة المتطورة، أو أنظمة المراقبة والإستطلاع، أو أنظمة الإتصال، أو سرعة تدفق المعلومات والبيانات، وهذه الأمور كلها تحتاج إلى إعداد أفراد القوات المسلحة وتأهيلها على النحو الذي يمكنها من التعامل مع التطور العلمي والتقني الكبير.
– ولا شكُ في أن الثورة في الشؤون العسكرية تشير إلى ثورة مقابلة في التعليم العسكري، ولاسيما التعليم العسكري المحترف، إذ يجب أن يكون هذا التعليم سلساً، ومتطوراً ومستمراً، وأن يقوم على أساس الإحتياجات التي تتطور وتنمو تباعاً.
– وينظر إلى التدريب على أنه حجر الزاوية في القضايا المتعلقة بالموارد البشرية في القوات المسلحة الحديثة، حيث ثبت أن تحقيق مستوى تدريب أفضل يضاعف القدرة العسكرية، ووجود أعداد أقل من الوحدات ذات التدريب الممتاز يحقق وفراً في حجم الإنفاق العسكري، وهو ما تنشده جميع دول العالم.
• التعليم والتدريب..علاقة تكاملية: الفرق الرئيسي بين تعريف كلمتي التعليم والتدريب هو أن التدريب يركز على المواصفات المحددة التي يقوم الفرد بتطبيقها، بينما يهدف التعليم إلى رفع مستوى الفرد الأكاديمي، ومع ظهور العولمة، وحرية إستخدام معلومات الأقمار الصناعية وأنواع وسائل الإعلام الأخرى، فقد أصبح التعليم، وبشكل متزايد، جزءاً من أسلوب الحياة، كما أن التعليم يعتبر من الأمور التي يمكن للمرء أن يغذي نفسه بها، وأن يرفع مستواه لإشباع حاجته، والسعي نحو فرص تعليمية أخرى.
– ولقد أدركت القوات المسلحة في غالبية دول العالم أهمية التعليم، خاصة في صفوف الضباط، وذلك عن طريق دورات الأركان التي يتلقى فيها الضباط تعليماً عاماً، وتعليماً في المجالات العسكرية، التي قد لا تكون ضمن تخصصاتهم.
– والتعليم يزود الفرد العسكري بإمكانيات وقدرات تساعده على المناقشة المنطقية والقيام بإجراء بحوث متعلقة بأية مشكلة، والأهم من ذلك كله، تزويده بإمكانية تقدير الإحتمالات، التي تؤثر على أي قرار، ولا شكُ في أن بإمكان كبار القادة العسكريين إظهار هذه المهارات والقدرات بشكل هائل، في الوقت الذي يمكن فيه تعزيز دافعية واهتمام الضباط عن طريق تزويدهم، خلال فترة خدمتهم، ببعض الدورات التدريبية.
• المعلم المحترف: وأول ما يتبادر للذهن في عملية تطوير التعليم هو إعداد المعلّم العسكري المحترف، الذي يجب أن يواكب مسيرة التطور في التعليم العام، حيث بات من الضروري أن يكون المعلم متسلحاً بأحدث النظريات في مجال التعليم التي تحاول أن تنأى عن التلقين، وتسعى إلى فتح آفاق التفكير والعصف الذهني أمام المتعلم.
– إننا أمام ثورة في التعليم العسكري، تحاول مواكبة العصر، إذ لم يعدُ ممكناً للتعليم العسكري المحترف أن يراوح في مكانه، ولا بد له من إستثمار عصر المعلومات الذي نعيشه حتى يرتقي بأفراد القوات المسلحة ليكونوا قادرين على التعامل مع معطيات هذه الثورة التقنية وتسخيرها في تحسين قدراتهم.
• الكفاءات اللازمة: لا يكفي للتعليم العسكري المهني المشترك ببساطة أن يمكن خريجينا من التكيف مع المستقبل، بل عليهم أن يكونوا قادرين على خلق الأفكار والشروع في الإجراءات التي تمكنهم من توليد مستقبلهم، وأن يكون لديهم التفكير النقدي والإبداعي، والقدرة على إتخاذ إجراءات حاسمة حتى عندما تكون الظروف غامضة، وهذه الصفات مهمة خاصة لكبار القادة.
– وينبغي ألا يقتصر التعليم العسكري المحترف على التعليم داخل الدولة، بل يجب إرسال خيرة طلبة العسكريين إلى مختبرات أبحاث رائدة، يتم تحديدها من خلال إستراتيجية الإستهداف، وقد يكون ذلك بوضع هؤلاء الطلبة في هذه المجالات البحثية الإبداعية والمختبرات؛ بوصفها جزءاً من حزمة دعم أوسع من دولة الإمارات العربية المتحدة، والفكرة الرئيسية هنا، تكمن في أن هؤلاء الباحثين، لا يتم إرسالهم بصورة معزولة، بل من حيث هم جزء من مجموعة يمكنها – عند العودة إلى الوطن – تشكيل فرق بحث رائدة، تستطيع نقل التجارب المتقدمة والمتطورة إلى قواتنا المسلحة، ويجب أن يكون واضحاً في أذهاننا أن هذه الإستراتيجية متوسطة الأمد أو طويلة الأمد، ولن تؤتي ثمارها في الغدُ، لأن ترسيخ ثقافات التميز في البحث والإبداع تستغرق وقتاً.
• ما الذي يحتاجه المتدرب العسكري؟
– إن ما يميز المتدرب أو المتعلم العسكري عن المتعلم العادي أنه يحتاج إلى أمور ومعارف خاصة، تبدأ من جعله متشرباً لثقافة دولته مؤمناً بعقيدتها وعقيدة جيشها، وهذا يتطلب تزويده بمجموعة من المعارف التاريخية والإجتماعية والدينية، يستطيع من خلالها بلورة شخصيته بما ينسجم مع هوية الدولة وشخصيتها، والأمر الثاني أنه يحتاج إلى تعليم خاص بالفرقة أو الوحدة التي ينتمي إليها، سواء من حيث الأسلحة التي يستخدمها، أو التكُتيكات التي يحتاجها في أداء دوره على أكمل وجه، والأمر الثالث أنه في حاجة إلى ثقافة عسكرية متكاملة تمكنه من معرفة الأدوار المنوطة بكل وحدات الجيش وفرقه، حتى يكون على دراية بما يقوم به أقرانه من أفراد القوات المسلحة.
– ويتم التركيز في مجال تدريب المقاتل وتعليمه على أن يكون مفكراً نظامياً، وهذا التفكير النظامي ينبغي أن يبدأ بفهم سلسلة العمليات المتعاقبة، ويجب أن يبدأ التفكير النظامي مبكراً في عملية إعداد المقاتل، وأن يتخلل كل الخبرات التعليمية والعملياتية المتتالية.
• إستخدام المحاكاة في التدريب: أدى التعقيد المتزايد في جميع الأسلحة والمعدات العسكرية، وما ترتب عليه من إرتفاع أسعارها، وزيادة تكاليف تشغيلها إلى الحاجة الشديدة لإستخدام المحاكاة، بغرض التغلب على مشكلة إستخدام مساحات كبيرة من الأرض كميادين للتدريب بالذخيرة الحية، وحدث تقدم كبير في تقنيات المحاكاة، فأصبح الطيار يستطيع قيادة طائرته بصورة شبه تامة، دون أن يستقلها، وأن يتعلم الجندي كيفية قيادة الدبابة أو مركبة القتال دون أن يركبها، وكذلك تصميم بعض نماذج المحاكاة لتقويم عناصر القيادة والأركان، حيث تمكن هذه النماذج من دراسة مراحل القتال بالتفصيل.
• وتغطي المحاكاة مختلف المجالات مثل:
– قيادة الطائرات، والسفن، والمركبات، والدبابات، وتدريب أطقمها على العمل الجماعي، والإجراءات المشتركة.
– إستخدام الأسلحة المختلفة، مثل المدافع، والمقذوفات الموجهة، والصواريخ، والتحكم في نيرانها.
– التدريب القتالي، والقتال الجوي، والهجوم جو – أرض.
– تدريب الأفراد على الأسلحة الصغيرة.
– الحرب الإلكترونية.
– وفي مجال تدريب الطيارين، يحظى إستخدام المحاكاة بإهتمام متزايد من قبل قواتنا الجوية، مما دفع هيئة التصنيع الحربي إلي التركيز علي هذه الأنظمة و العمل على تطويرها والإبداع في إبتكار الأنظمة المرئية والسمعية المكملة للتشبيه، ولقد كانت الأسلحة الجوية رائدة في التدريب بإستخدام المحاكاة، بعد أن ثبت بصفة قاطعة، ما للمحاكاة من مزايا عديدة تميزها عن التدريب التقليدي بواسطة الطائرات.
• النموذج الأمريكي في التدريب: لدى القوات المسلحة الأمريكية برنامج، واسع النطاق، للتعليم والتدريب، وهو يبدأ بفرصة الحصول على تعليم جامعي للأفراد الموجودين في الخدمة الفعلية، وكل سلاح من الأسلحة يشجع أفراده على حضور الدورات الدراسية الجامعية، التي تقدم لبعض الوقت، ويوفر المساعدة المالية، ويقوم في بعض الأحيان بتعديل الجدول حتى يجعل ذلك ممكناً، ويكون ترتيب ذلك بالنسبة للأفراد العسكريين المتمركزين في الولايات المتحدة، ولكن الأسلحة المختلفة أعدت أيضاً برنامجاً للدراسة الجامعية للأفراد الموجودين وراء البحار، وتقوم بتنظيم البرنامج لصالح الأفرع العسكرية جامعة “ماريلاند” التي أنشأت مراكز لتلقي الدراسة الجامعية في ألمانيا واليابان وكوريا، حيث يتمركز معظم الأفراد الأمريكيين، الموجودين في الخارج. وبالإضافة إلى ذلك، هناك برنامج واسع النطاق للتعليم والحصول على شهادة في المجالات الفنية، التي تهم القوات المسلحة، بما في ذلك مدرستان للدراسات العليا.
– وتقوم الجهات العسكرية الأمريكية أيضاً بتنفيذ برنامج، فريد من نوعه، للتدريب على القيادة، فكل واحد من ضباط الصف، قبل ترقيته- أو ترقيتها إلى الدرجة الأعلى يشترط أن يتلقى دورة في القيادة، تتولى الإعداد بالتحديد للتحديات اللازمة للدرجة الأعلى، وبعض هذه الدورات يمتد لفترات طويلة.
وقد أنشأ الجيش الأمريكي مرافق كاملة المعدات للتدريب، جعلت في الوسع الوصول إلى مستوى لم يسبق له مثيل في الواقعية القتالية.
• النموذج الألماني في التدريب: يرى الجيش الألماني أنه في حاجة إلى قادة على مستوى أعلى يتمتعون بمهارات قيادية فائقة جنباً إلى جنب مع التشكيل الجديد، فمن أجل تطوير وتدعيم الحفاظ على العقيدة القتالية الأساسية، يجب أن يكون القادة مرنين ومبدعين وقادرين على التأقلم مع ظروف المعركة وتنفيذ المهمات الموكلة إليهم.
– ولذلك فإن تدريب القادة في الجيش الألماني هو العنصر الأساسي في الخطة الهادفة إلى رفع مستويات التدريب، فقادة السرايا والفصائل يكتسبون خبرات قيادية عملية من خلال التدريب مع وحداتهم وتشكيلاتهم، في مراكز التدريب على المناورات القتالية، التي تكسب التدريب أكبر قدر من الواقعية، من خلال ظروف ميدانية ونفسية حقيقية، لأنهم سوف يخدمون في هذه المراكز لمدة ثلاث سنوات، مما سيجعل منهم في المستقبل قادة على أعلى مستوى، وكذلك سيتم دعم تدريب القادة من خلال تطوير التفكير العملياتي، لعدم فرض الظروف العملياتية على القائد، إنما يكون عليه أن يختار هو المعركة، بحيث يكون الميدان وتميز القوات في صالحه.
• التعليم العسكري في السودان: لا شكُ في أن الأكاديميات والمعاهد والمدارس العسكرية البلاد تمتلك أدواراً إستراتيجية محورية على مستويات عدُة، من حيث التطوير التقني والتكنولوجي للجيوش، وتدريب وتأهيل الكوادر البشرية الوطنية ولا بد لهذه الأكاديميات والمعاهد العسكرية أن ترتقي بمناهجها العلمية والتدريسية التي تطبقها، لمواكبة التقدم العلمي والنظريات الحديثة في التعليم.
– وهذه المؤسسات جميعاً تؤمن بأن التدريب والتأهيل العلمي أصبحا من الأمور المسلم بها، وأن الكفاءات القيادية لا تولد من فراغ، بل هي حصاد عمل شاق وتدريب متطور وتأهيل مستمر، ولذا فهي تحرص على إعادة تشكيل السلوك وتحسينه وتجويده وتطويره وفق قواعد علمية ومنهجية متعارف عليها عالمياً، وهذا ما يقصد بالتدريب والتأهيل للقادة في المستويات الصغرى والوسطى كعلم يستند إلى أسس منهجية ونظريات تعلم تعتمد.
– إذن أن موضوع التعليم العسكري من أهم برامج إعداد الجيوش خاصة المستقبلية منها وتدريبها علي نماذج القتال والحرب الذكية التي تكون التقنية والتعليم هما أساسها، وهذا ما تعمل علي القوات المسلحة حالياً بكافة معاهدها ومصانعها الحربية.
بقلم
أسد البراري