ضياع محاريثنا بسبب محافيرنا
وأنا أُقلِّب مُجدداً صباح الأحد المُنصرم، صفحات من رُباعيّةِ الدونْ الهادئ لميخائيل شولوخوف، توقفت مُمعناً الوجدان في أغنية قوزاقية قديمة، ترنمت بها علّ صباحي يُشرق لكنه أكفهر لحظة مقارباتها بواقعنا الجاري، ظننت أننا من كتبنا أغاني القوقاز ووضعنا نوتاتها الموسيقية، إنها أغنية تشبه واقعنا الماثل فاسمعوا:
ليس بمحراثٍ شُقتْ أرضنا/ بسنابكِ الخيلِ تُحرثُ أرضنا/ برؤوس القوزاق تزرع أرضنا المجيدة/ بهي دوننا الهادئ بأراملهِ الصبايا/ أبونا، الدون الهادئ يزهو بالايتام/ وأمواج الدون الهادئ تزخر بأدمع الآباء والأمهات/
وكيلا يحدث لبس فإن (القوزاق) وليس (القوقاز)، هم مجموعة أثنية للسلافيين الشرقيين الذين يقطنون في السهوب الجنوبية في شرق أوروبا وروسيا وكازاخستان وسيبيريا وشمال القوقاز، وهم أقوام محاربة شديدة البأس والجبروت.
وبعد إماطة (اللبس) عن العمود، أعود إلى الموضوع الرئيس، وهو تلك الأغنية القوزاقية العجيبة التي أوردها ميخائيل شولوخوف في مقدمة روايته الرائعة (الدون الهادئ)، أغنية من دماء تزرع الأرض الخصبة برؤوس القوزاق المساكين، وتروى بدمائهم وكأنها سماد.
إنها الحربُ التي تُثقل القلب كما قال الجنوبيّ أمل دُنقل في قصيدته الشهير أقوال جديدة عن حرب البسوس، الشهيرة سودانياً بـ (لا تصالح)، هذا النوع من الحروب التي تثقل القلب حتى يفجر أغنيات على شاكلة (تلك القوزاقية) القانية، فيكون نهر الدون (الهادئ): (بهي بأراملهِ الصبايا/ ويزهو بأيتامه/ وأمواجه تزخر بدموع الآباء والأمهات)، ويا لثقل هذا القلب الذي يحتفي بالجماجم والأشلاء والدماء، ولا يزرع سواها في تلك الأراضي البهيّة البكر!.
فهل سيُغني القلب السوداني كما غنى القوزاقي يوماً للنيل الهادئ ذات الأغنية؟، هل ستخفق قلوبنا لأغنية كـ (ليس بمحراثٍ شُقتْ أرضنا/ بسنابكِ الخيلِ تُحرثُ أرضنا) فتكون شعاراً بديلا لـ(جينا نمد أيدينا الخضرا فوقك يا أرض الطيبين/ يا بنوت الحلة العامرة أبشرن بينا عديلة وزين)؟.
ما لم تتوقف الحرب، ويعود السوداني بمحاريثه إلى أرضة الطيبة فإننا مبشرون بهذا النوع من الغناء القاني، وما لم نوقف هيمنة الذين يدسون المحافير لإعاقة عمل المحاريث فإننا سنرقص على إيقاع دامٍ و نطرب لأغنيات حمراء. وها أنذا أنذركم ناراً تلظى، قبل أن أرفع قلمي وأجفف زوايتي، فهل أنتم مدّكرون؟
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي