عالمية

علاقات محرمة.. الصفقات السرية بين مصر وكوريا الشمالية

مع أن الخارجية الأميركية تذرعت بسجل حقوق الإنسان المتدهور، عندما أعلنت في الثاني والعشرين من (أغسطس/آب) 2017، قرارها خفض المعونات الاقتصادية والعسكرية لمصر حتى 300 مليون دولار أميركي. إلا أن العديد من المحللين والخبراء ذهبوا إلى إمكانية أن تكون العلاقات الاقتصادية والأمنية الوثيقة التي تربط مصر بكوريا الشمالية، السبب الحقيقي وراء إجراء واشنطن.
لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي
بالرغم من مكانة مصر كأحد أبرز حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ عام 1970، إلا أن القاهرة تظل في الوقت نفسه إحدى الشركاء التجاريين الرئيسيين لبيونغ يانغ في العالم العربي. ترجع الروابط التاريخية بين القاهرة وبيونغ يانغ إلى الماضي المشترك الذي جمع البلدين كحليفين غير متحالفين للاتحاد السوفياتي في أثناء الحرب الباردة، بالإضافة إلى إقبال مصر التاريخي على التزود بالتكنولوجيا العسكرية لكوريا الشمالية.
مصر وكوريا الشمالية.. شراكة دبلوماسية طويلة الأمد
مع أن السياسة الخارجية المصرية مرت بالكثير من عمليات إعادة ترتيب الأوراق منذ استيلاء جمال عبد الناصر على السلطة في 1952، إلا أن العلاقة الوطيدة التي جمعت القاهرة بكوريا الشمالية ظلت إحدى الملامح الثابتة لإستراتيجية مصر في منطقة آسيا والمحيط الهادئ منذ فجر الحرب الباردة. يرجع استمرار العلاقات الودية بين البلدين حتى اليوم، إلى عضوية كليهما في حركة عدم الانحياز (NAM) والتحالف المشترك مع الاتحاد السوفياتي خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
كانت أولى محطات معاداة الغرب، التي جعلت من جمال عبد الناصر شخصية بارزة في حركة عدم الانحياز، قرار هذا الأخير تأميم قناة السويس عام 1956. لتقوم بيونغ يانغ بتقديم تبرع مالي لمصر في مواجهة العدوان الثلاثي الذي شنته إسرائيل وبريطانيا وفرنسا. ومع أن الدعم كان رمزيا، إلا أنه كان بمثابة برهان على وقوف كوريا الشمالية إلى جانب عبد الناصر في مقارعة القوى الإمبريالية.
شكَّلت تلك الحادثة مقدمة لعلاقة متينة بين بيونغ يانغ والقاهرة على مدار ستينيات القرن الفائت. عام 1961، وصل وفد دبلوماسي عن كوريا الشمالية إلى مصر بغية تأسيس علاقات دبلوماسية. وبهدف توطيد العلاقات مع القاهرة، قام صناع السياسة الكوريون بتوفير الدعم الدبلوماسي لجهود مصر في مناسبتين: دحر القوات البريطانية عن جنوب اليمن، والإدانة الحازمة لحرب (يونيو/حزيران) عام 1967.
حافظ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على سياسة أسلافه تجاه كوريا الشمالية، وعبر عن رفضه للعقوبات التي أقرتها الأمم المتحدة على بيونغ يانغ (رويترز)
عملت هذه الجهود الدبلوماسية على تعزيز الثقة بين مصر وجمهورية كوريا الشمالية، إلى حد قيام قائد القوات الجوية المصرية آنذاك، محمد حسني مبارك، بالاستعانة بمحاربين في سلاح الجو الكوري الشمالي أثناء “حرب أكتوبر” عام 1973.
قد تبدو مسألة المجاهرة التامة بالتعاون مع كوريا الشمالية صعبة بالنظر لعدة اعتبارات أبرزها الشراكة الإستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة، إلا أن الشراكة الدبلوماسية بين القاهرة وبيونغ يانغ حافظت على تماسكها بفضل المصالح الاقتصادية المشتركة والاتصالات المستمرة بين قادة البلدين. أدت الاتصالات، التي دعمتها أربع زيارات قام بها حسني مبارك إلى بيونغ يانغ ما بين 1983-1990، إلى استثمارات مصرية لاحقة في الاقتصاد الكوري الشمالي.
كان أبرزها تأسيس عملاق الاتصالات المصرية “أوراسكوم” شبكة “كوريولينك” عام 2008، وهي شبكة الاتصالات الوحيدة التي تعمل بتقنية “ثري جي” في جمهورية كوريا الشمالية. وفرت الصفقة التي أجراها الملياردير المصري نجيب ساويرس؛ 300.000 زبون من كوريا الشمالية لشركة “أوراسكوم”. لتكون مقدمة لتبادل اقتصادي أوسع مهدت له زيارات ساويرس اللاحقة إلى كوريا الشمالية بهدف ضخ المزيد من الاستثمارات المصرية في اقتصاد بيونغ يانغ.
رغم الاضطراب السياسي الذي أعقب إزاحة محمد حسني مبارك في 2011، إلا أن الشراكة الاقتصادية بين القاهرة وبيونغ يانغ ظلت في أوجها. حيث ظل ميناء بورسعيد نقطة محورية لشحن صادرات السلاح الكوري الشمالي إلى أفريقيا. بينما حافظ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على سياسة أسلافه تجاه كوريا الشمالية، وعبر عن رفضه للعقوبات التي أقرتها الأمم المتحدة على بيونغ يانغ.
اهتمام مصر بالتكنولوجيا العسكرية لكوريا الشمالية
بيونغ يانغ تعتبر إحدى أبرز مزودي الجيش المصري بالتكنولوجيا العسكرية منذ سبعينيات القرن الماضي (مواقع التواصل)
لم تكن الصلات الدبلوماسية والعلاقات التجارية مع كوريا الشمالية، المنفذ الوحيد الذي عرفته التبادلات بين البلدين. ذلك أن بيونغ يانغ تعتبر إحدى أبرز مزودي الجيش المصري بالتكنولوجيا العسكرية، منذ سبعينيات القرن الماضي.
كبادرة امتنان لإسهامات كوريا الشمالية في “حرب أكتوبر”، صرح الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، ببيع صواريخ “سكود بي” لجمهورية كوريا الشمالية ما بين عامي 1976-1981. لترد كوريا الشمالية بتوفير الدعم التقني للمساعي المصرية في تصنيع هذه الصواريخ.
برغم السلام البارد بين مصر وإسرائيل عام 1979، والتحالف الأميركي المصري الموسَّع في ظل حكم حسني مبارك، إلا أن القاهرة ظلت زبونا مخلصا للتكنولوجيا العسكرية لدى كوريا الشمالية. ومن الممكن تفسير قرار مصر بالحفاظ على العلاقات القوية التي تربطها بكوريا الشمالية باثنين من الدوافع الإستراتيجية.
أولا: أن تدريب كوريا الشمالية علماء مصريين على إنتاج منظومة صاروخية مستقلة، كان مقابل توفير القاهرة خزانا من العملة الصعبة لبيونغ يانغ. يساعد اتفاق “السلاح مقابل الصعبة” هذا، في خفض اعتماد مصر على واردات السلاح الخارجية، بالإضافة إلى أنه يتيح لها تحديث الجيش المصري دون الحاجة للاعتماد الكلي على روسيا أو الولايات المتحدة.
هذا التعاون الوثيق بين كوريا الشمالية ومصر، بلغ أقصى أهميته خلال التسعينيات. عندما بدأ يطرأ تحسن ملحوظ على القدرات المصرية الدفاعية بفضل واردات صواريخ “سكود سي” التي طلبها مبارك من بيونغ يانغ. لاحقا، سيقوم علماء كوريا الشمالية بمساعدة مصر على إنتاج منظومة صواريخ “سكود سي” خاصة بها، خلال فترة أواخر التسعينيات إلى مطلع الألفية الثانية.
أما مؤخرا، فقد عاودت بيونغ يانغ الظهور كشريك أمني إستراتيجي للقاهرة. بالأخص بعد تجارب الصواريخ الباليستية التي أجرتها إيران، والتي اضطرت بمصر إلى الإفصاح عن رغبتها باقتناء صواريخ أرض أرض لأغراض دفاعية وانتقامية. في سعي القاهرة لدعم التوازن العسكري للملكة العربية السعودية، حليفها الأبرز في المنطقة.
كوريا الشمالية لعبت دور المزود المطلوب لاحتياجات مصر من السلاح النووي، فيما لو كانت مصر تسعى لإعادة إحياء برنامجها للتخصيب النووي
ثانيا: يبدو أن استمرار الحكومات المصرية المتعاقبة في رفض التفتيشات الدولية الشاملة لبرنامج الطاقة النووية المصري، أثار مخاوف واشنطن من إمكانية توجه مصر نحو إنشاء منظومة ردع نووي خاصة بها، بالأخص إن انتهكت إيران شروط الاتفاق النووي. يؤكد هذا الظن، اكتشاف الوكالة الدولية للطاقة الذرية كميات من اليورانيوم عالي التخصيب عاميّ 2007 و2008، برغم التزام مبارك الاستعراضي بشرق أوسط خال من السلاح النووي.
بينما تعارض كل من الولايات المتحدة وروسيا اقتناء مصر أسلحة نووية، يمكن القول إن كوريا الشمالية تلعب دور المزود المطلوب لاحتياجات مصر من السلاح النووي، فيما لو كانت مصر تسعى لإعادة إحياء برنامجها للتخصيب النووي. يذهب عدد من المحللين الإستراتيجيين إلى أن التوترات المتصاعدة بين مصر والولايات المتحدة قد ترفع مخاطر اقتناء مصر برنامج ردع نووي خاص. وأن قرار ترمب خفض المعونات الاقتصادية والعسكرية لمصر، يزيد فرص تقاربها العسكري مع بيونغ يانغ.
بالإضافة إلى التخوف من أن يؤدي ازدهار الشراكة بين القاهرة وبيونغ يانغ إلى امتصاص تأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على كوريا الشمالية. وإلى تعميق الخلاف السياسي القائم بسبب لجوء ترمب إلى لغة استخدام التهديد مع مصر.
وبالنظر إلى إصرار مصر على استمرار العلاقات بينها وبين كوريا الشمالية، فإن قرار ترمب المفاجئ خفض المعونات الخارجية لمصر، يترك السيسي أمام خيارين أحلاهما مر: إما النزول القسري عند مطالب الولايات المتحدة أو المجازفة بتجميد طويل الأمد للشراكة الأمنية بين القاهرة والولايات المتحدة.

الجزيرة.