رأي ومقالات

عادل الباز يكتب.. جايي تفتش الماضي.. من “قصر الشوق” إلى “عز الليل”

التقيت التجاني حاج موسى لأول مرة بـ(قصر الشوق) وكان ذلك في نادي النيل بالدويم في سبعينيات القرن الماضي. لا زلت أذكر تلك الليلة التي أضيئت فيها (الرتاين) وصدح فيها التجاني بأشعاره ونحن نتحلق حوله.
كانت سمعة التجاني كشاعر غنائي من (أولاد) الدويم تتردد أغانيه على أفواه الجميع تملؤنا بالزهو، وكان صوت زيدان إبراهيم حين ينبعث من الراديو يصدح بـ(قصر الشوق) يقف كل (المحبين الحنان) على أطراف أصابعهم في مقهى (حاج برعي) الشهير بسوق الدويم، حيث المذياع ذو السماعات الكبيرة. كنت من أولئك المحبين في زمان مضى، ولعلي لا زلت، مين عارف؟!! منذ تلك الليلة التي قرأ فيها التجاني أشعاره بصوته الشجي، أصبحت أسيراً لإبداعه وشجو ألحانه من (قصر الشوق) إلى (عز الليل). غادر التجاني الدويم في أوائل سبعينيات القرن الماضي ليلتحق بجامعة القاهرة، ولكن كانت (دار السلام) لا تزال هنالك، فكان لا ينقطع عن حبه الأول. تعرفنا على التجاني كشاعر ولاعب حريف في (الويست) و(الكنكان) بنادي النيل، وكنا نتحلق حوله طيلة فترة إقامته بالدويم فأصبحنا أساطين في لعب الورق وأصفاراً في الشعر.
الدويم المدينة الراقدة على الشط الغربي لبحر أبيض تفيض عذوبة وغناءً وشعراً، صهرت في جوفها ثقافات قبائل وأجناس، كان المعلمون، الشعراء والمبدعون يأتونها من كل حدب وصوب من السودان. كان مسرح بخت الرضا عامراً بالفنون المتنوعة التي يقدمها الطلاب والأساتذة من كل بقاع السودان. هذا الجو الذي تربى في مناخه تجاني، شحذ وجدانه بالغناء والشعر الجميل.
في حضن أمه دار السلام عبد الله أبو زيد (نبع الحنان) تربى شاعرنا الذي توفي والده بعد سنتين من ميلاده. كانت دار السلام ولا زالت منبعاً عظيماً من منابع إلهامه الشعرية. (أمي الله يسلمك ويديك لي طول العمر في الدنيا يوم ما يألمك).
كم كان التجاني محظوظاً حين تقاذفته الأمواج من حضن بيئة مبدعة إلى أخرى، فصعد بتجربته الغنائية إلى آفاق شتى. في حي العباسية بأم درمان، هذا الحي العريق الذي ألهم إبداع عدد من الفنانين والملحنين والتشكيليين (عائشة الفلاتية وأم بلينا السنوسي وإبراهيم الصلحي وصلاح أحمد ابراهيم) التقى التجاني بزيدان إبراهيم والملحن الفاتح كسلاوي فانفتح أمامه عالم الغناء من (قصر الشوق) وهي أول أغنية لزيدان وقبلها (ليه كل العذاب ليه كل الألم).
التجربة الشعرية الغنائية للتجاني حاج موسى والتي عبرت أزمنة مختلفة وبيئات متنوعة، لم تكن بعيدة من تجارب جيله: عبد الوهاب هلاوي وحسن الزبير وغيرهما، إلا أن ثنائية (الجرح والزمن) التي ظللت كافة أغانيه تقريباً شكلت بصمته الخاصة في جيله، كما وهب الشجن العميق تجربة بازرعة فرادتها الغنائية.
(الجرح والزمن) متلازمتان تعملان كدالتين لإضاءة الحالة الشعورية للشاعر ولا تكادان تنفكان، وبدونهما لا يستقيم شعر التجاني. انظر لـ(قصر الشوق) و(الأيام بتتعدّى).
وجايي تفتش الماضي
(جايي تفتش الماضي
خلاص الماضي ولى زمان..
جفّت مقلتي الباكية
ونامت من سنين أحزان)
* * *
(شقى الأيام وآهاتي الحزينة ملازماني
من يوم ما شفت عيونك الحلوة
ويومها عرفت كيف العين مكامن ريد)
* * *
تباريح الهوى
(بشكي ليكم يا مظاليم الهوى
أصلي مجروح مرتين
يمكن ألقى الزيي فيكم
ضاق جراح الحب
ومتعذب سنين)
* * *
عز الليل
(في عز الليل
ساعة النسمة ترتاح على هدب الدغش وتنوم
أنا مساهر)
* * *
(لو حاولت تتذكر تعيد الماضي من أول
تلقى الزمن غيّر ملامحنا
ونحنا بقينا ما نحنا
وأنا الصابر على المحنة
لو كان الزمن نسّاك أنا ما نسيت
أو في يوم زمن قسّاك أنا ما قسيت)
* * *
لغة الحكي اليومي على بساطتها، استطاع التجاني أن يشحنها بعاطفة غنائية عبرت مباشرة إلى أفئدة المحبين. من غرائب ما لاحظت أن هذه اللغة البسيطة نافست على صدارة الأغنيات العربية الفصيحة التي تغنى بها عدد من الفنانين الذين رفدهم التجاني بأشعاره. فزيدان غنى لإبراهيم ناجي (قف تأمل، يا حبيب الروح هب لي بضع لحظات سراع)، إلا أن (قصر الشوق) نافست شعر ناجي، وكذلك (عز الليل) نافست (أمطرت لؤلؤاً) ليزيد بن معاوية.
عرف شعر التجاني حالات متغيرة من الوجد والعشق، فمن اليأس المطلق إلى حواف الرجاءات، إلى الغفران، إلى مشاركة التجارب الوجدانية (إمكن ألقى الزيي فيكم). ومن أغرب ما لاحظت أن أغاني التجاني على الرغم من قسوة ثنائيتها (الجرح والزمن) إلا أنها تمثل الطلب رقم (1) في حفلات الأعراس، وأذكر أنني مرة قلت لترباس في حفل (ياخي تاني ما تغني أغاني التجاني في عرس)، فقال لي: (نعمل شنو، الناس زهجانين من نسوانهم من يوم عرسهم.. أهو العريس هسع طالب “جايي تفتش الماضي”).
يا تجاني، حيّاك الغمام ومتعك الله بالصحة والعافية، عمّرت وجداننا بالغناء الجميل ثلاثين عاماً ولا زلت تبرق في سماء المحبين رمزاً ملهماً لزمن جميل.

الاحداث.