تحقيقات وتقارير

تردٍّ بيئي وخفض للأوزان المخابز.. عندما تغيب الحكومة تعم الفوضى


محلية أم بدة تعاني أزمة حقيقية والمستهلك ضحية…
أصحاب المخابز يصرخون: مدخلات الصناعة مرتفعة جداً…
قرابة ساعتين قضاها عدد من المواطنين، وهم يتبادلون الأحاديث أمام مخبز بمحلية أم بدة.. كل منهم يحكي معاناته للحصول على (الرغيف) الذي بات لا يسد الجوع، كان الانتظار في أجواء حميمية، طغت عليها روح الإلفة.. ولكن بمجرد ظهور طاولة الخبز تلاشى كل شيء، وسرعان ما أبرز الجميع عضلاتهم وكان (العيش) للأقوى، أحد الواقفين سأل البائع (العيشة دي صغيرة ليه؟)، فرد عليه بالقول (دا الوزن المحدد).. أثار ذلك حفيظة المتزاحمين ودفع بهم إلى عمل تظاهرة أمام المخبز لبيعه (رغيف) ناقص الوزن، ولأن الجوع يتهددهم قاموا بالشراء بعد أن صاح صاحب المخبز في وجوههم قائلاً: (الما عاجبو ما يشتري).
ثورة قديمة
هذه التظاهرة ينطبق عليها اسم (ثورة الجياع) التي أطلقها (الشريف زين العابدين) (رحمه الله)، على انتفاضة مايو التي كان أحد أسبابها زيادة أسعار الخبز الذي يعتبر واحداً من أهم الأسباب التي غيرت الكثير من الحكومات، وتسببت في إقالة عدد من الولاة، وعلى الرغم من أوزانه المجازة من الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس، إلا أن هناك تلاعباً كبيراً وخطيراً في هذه السلعة، كما يقول المواطن (أحمد رجب) من سكان المحلية في حديثه لـ(الصيحة) ليوضح التردي البيئي لبعض المخابز بالمحلية، وعلى إثر ذلك توجهنا إلى هناك، حيث كشفت جولة الصحيفة بين بعض المخابز في منطقة (دار السلام) عن رداءة السلعة وسوء في العرض وعدم الالتزام بالأوزان إلى جانب تردي البيئة الصحية لبعض المخابز.
سوء في تداول
ذات الوضع ينطبق على المخابز البلدية بأم درمان والخرطوم، حيث يتم تداول السلعة بالأيدي الملوثة بعد خروجه من (الفرن) إلى أن يتناوله المستهلك، وتظهر أكثر المخالفات أمام نافذة البيع المزدحمة بالذباب، حسب إفادت المواطنة (آمنة عبد الرحيم القرشي) من سكان مدينة بانت بأمدرمان، لافتة إلى أن الأخطر من ذلك أن بعض المخابز تستخدم الزيت المكرر (زيت التحمير) ضمن مدخلات الصناعة، واتفق معها في الرأي عادل يس) أستاذ ثانوي، مؤكدًا أنه وقف على عملية بيع مثل هذا الزيت، حيث قام أحد أفراد المخبز (…) بالشراء من مطعم يقع على شارع الأربعين وبسعر منخفض جدًا، واصفاً السلعة بمنتهية الصلاحية.
شكاوى عديدة
ومن مدينة الثورة الحارة (التاسعة) دفع المواطنون بالعديد من الشكاوى جراء التلاعب بالأوزان، وعدم الالتزام بالضوابط الصحية والبيئية، واشتكى (حامد عبد الكريم ) من عدم اهتمام العاملين في المخابز بهيئتهم الشخصية وملابسهم، وكشف أن أغلب المخابز في مدينة الثورة عبارة عن (بيوت) قائمة بشكل عشوائي، وتقع الحمامات بالقرب من الأماكن المخصصة لصناعة السلعة، كما أن العاملين لا يستخدمون المطهرات بعد خروجهم من الحمامات، وإنما يتجهون نحو العجينة مباشرة لتقطيعها، فيما أدهش المواطنة (نوال حماد) التي تسكن (الثورة) الحارة العاشرة، تكاثر الذباب الذي يرافق طاولة الخبز حتى بعد شرائه .
اعتراف خطير
وفي الوقت الذي يؤكد فيه المستهلك المخاطر والتجاوزات الصحية، يقر أصحاب بعض المخابز بأنهم يقومون باستخدام راجع المطاعم من الزيوت نتيجة لقلة أسعاره، وأوضحوا أنهم يستعملونه في مسح (الصواني) وتماسك العجينة، وقال (بابكر) صاحب مخبز بالثورة ـ فضل عدم الإشارة إلى مخبزه، أن الكمية المستخدمة من الزيت لا تضر بالصحة، وأنهم يقللون وزن (الرغيفة) لسد الفجوة وضمان استمرار الصناعة.
بدوره اتهم (محمد) مدير مخبز الإيمان الواقع في محلية أمدرمان الجهات الرسمية بضعف الرقابة، وتركها الحبل على الغارب لبعض الخبازين ليتحكموا في حجم السلعة دون محاسبة، وتساءل عن دور الجمعيات الاستهلاكية، وقال إنه حاول كثيراً الاتصال بهم لزيارة بعض مخابز المحلية والوقوف على بيئتها، غير أنه في كل مرة يتصل على الرقم المخصص للشكاوى يكون غير موضوع في الخدمة.
اختلاف بسيط
لفت انتباه (الصيحة) طرق العرض النموذجية وأحجام (الخبز) الكبيرة بالمخابز الآلية، حيث كشف بعض أصحاب هذه المخابز تحديات تواجه القطاع حصروها في ارتفاع تكاليف مواد التشغيل خاصة الخميرة، التي تمثل عصب التشغيل، مشيرين إلى أنها ارتفعت أسعارها من (140 ـ 740) جنيه للكرتونة، وأضافوا: كما توجد شركات تعمل على احتكارها وتخزينها دون مبرر، هذا إلى جانب أن وكلاء الدقيق دخلوا كمنافسين، وقاموا بفتح مخابز خاصة بهم، حيث إنهم يوفرون سلعة الدقيق لمخابزهم ويحرمون الآخرين، وعند حدوث أية أزمة خبز نجد أن مخابزهم الوحيدة التي تعمل، وفي ظل ذلك يقف اتحاد المخابز مكتوف الأيدي لا (بحل ولا بربط)، ولا حتى يتفاعل مع شكاوى أصحاب المخابز.
ولفت (محمد إدريس) صاحب مخبز (التركي) إلى مشكلة أخرى تسببت فيها المحليات، متمثلة في ارتفاع أسعار الرخص التجارية والصحية إضافة إلى رسوم النفايات.
معاناة حقيقية
وحسب ما أفاد به آخرون أن المخابز تعاني من ارتفاع أسعار اسبيرات الماكينات، حيث وصل سعر الموتور وحده إلى (10) آلاف جنيه، ووصفوا تعامل المحلية معهم بالضبابي، مؤكدين أن موضوع المخابز خدمي، وبحاجة إلى إعادة النظر في السياسات. وحول المحسنات المضافة للخبز الفاخر أفادوا أنها عبارة عن بدرة صينية توزع عبر الوكلاء، ومصدقة من وزارة الصحة، لكنهم اشتكوا من العمالة التي تمثل ضغطاً كبيراً على القطاع، حيث توجد ندرة في بعض الأحيان تساهم في تعطيل العمل، وأدت إلى إغلاق أبواب المخابز بعد صلاة العشاء مباشرة، إلى جانب ارتفاع في الأجر اليومي للعامل الذي يصل إلى (380) جنيهاً، كاقصى حد لصانعي العجينة و(120) جنيهاً للبائعين، وطالبوا بضرورة توحيد وتقليل الرسوم المفروضة عليهم من قبل المحليات .
مواصفة رسمية
وبحسب تقارير إعلامية سابقة أن المواصفة التي وضعتها الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس، أن تكون المواد الاختبارية التي توضع في الخبز مسموحاً باستخدامها في الأغذية، على أن يكون الخبز خالياً من الحشرات الحية والميتة بكل أطوارها وأجزائها، وأن يكون صحيًا وأن يعبأ في عبوات مناسبة ومخصصة لهذا الغرض، على أن تكون أوعية التعبئة سليمة وواقية لجودة المنتج وتحميه من التلف والتلوث عند التداول والترحيل، وأن يتم عرضه في أماكن نظيفة فوق مستوى الأرض، محمياً من التلوث.
ولكن د. (الفاضل كامل) خبير التغذية والمهتم بقضايا المستهلك، يشير إلى أن الخبز يرحل بالدرداقات، كاشفاً دون غطاء في الأسواق، وحتى الطاولات داخل المخابز مكشوفة ومعرضة للتلوث البيئي وتتأثر بعوادم العربات والأتربة، الأمر الذي تسبب في أمراض كثيرة كان للخبز دور فيها.
عدم التزام
وتأسف د. (الفاضل) أن نتحدث عن الخبز في القرن الواحد والعشرين، وهو المسمى العالمي عند المنظمة الدولية للمستهلك بالاحتياجات الأساسية والحق في إشباع رغبة المستهلك، خاصة السلع الحكومية (الخبز ـ الأدوية ـ الغاز ـ المحروقات)، ويرى أنه ما لم يتم توحيد كل الجهات الرقابية المسؤولة في جسم واحد مركزياً سيادياً، لن ينصلح حال المستهلك في الخبز مواصفة وسعراً.
وحول المواصفة، قال: حُددت أوزان للخبز، لكنها غير معمول بها حالياً وهي (65) جراماً للرغيفة الواحدة، غير أن المعمول به اليوم (40) جراماً، وأضاف: كما حُددت كيفية بيعه للمستهلك من خلال تغليفه وكتابة اسم المخبز على الديباجة، ولكن حتى اليوم المكتب التنفيذي لاتحاد المخابز غير ملتزم بهذه المواصفة .
خلل في المدخلات
تركت الصيحة أصحاب المخابز والمواطنين، واتجهت نحو شعبة الدقيق، وكان الحديث للأمين العام لاتحاد المخابز المهندس (بدر الدين محمد أحمد)، الذي ذكر أن أوزان الخبز الحالي حددت من قبل لجنة مكونة من الاتحاد ووزارتي الصناعة والمالية، غير أن هناك تلاعباً من البعض في الاحجام، وأشار إلى وجود خلل في جميع مدخلات الصناعة أثرت على السلعة، حيث قفزت أسعار الخميرة وارتفعت أجرة العمالة التي تشهد ندرة، وهذا الأمر يمثل مشكلة تواجه المخابز، وقد شملت الزيادة أسعار البودرة المحسنة، وملح الطعام، ومعدات العمل الأخرى، وهذا الخلل أدى إلى التلاعب في الأوزان ومعالجة ذلك بحاجة لتضافر الجهود كافة، لافتاً أن بعض المخابز ونتيجة لارتفاع الأسعار تواجه خسائر كبيرة جداً.
توزيع نسبي
وفيما يتعلق بعملية الرقابة، يشير محدثي أنها تشمل المخابز الشاذة التي تعمل بوزن قليل، وبالتعاون مع المحليات يتم الوقوف على مراجعة التجديد السنوي للرخص والجوانب الصحية للمخابز، مؤكداً أن البلاد لن تشهد أزمة خبز في الوقت الراهن، لأن الإمداد الحقيقي للخبز الموجود في العاصمة والأقاليم يشكل نسباً كبيرة جداً، حيث إن العاصمة تستهلك أكثر من (35) ألف جوال قمح يومياً، هذه الكمية تعادل أكثر من (35) مليون رغيفة، تصنع في المخابز التي زاد عددها عن (600،2) مخبز، ويؤكد أن عدم توفره في بعض المناطق ناتج لمشاكل بسيطة في المخابز الصغيرة.
وحول كيفية التوزيع أوضح: هناك حصص يومية محددة للمخابز، وأخرى أسبوعية توزع عبر الوكلاء الرئيسيين والفرعيين لمصانع القمح عبر آلية متابعة ومراقبة تتمثل في الدعم الفني للشركات والأمن الاقتصادي.
وختم بالقول: إذا تم توزيع الحصص وخبزها بشكل سليم فإنها سوف تكفي وتزيد .
سرقات متواصلة
وكشفت مصادر لصيقة بالقطاع عن وجود سرقات للدقيق وبيعه في السوق الأسود، ولكن حتى اليوم لم تورد بلاغات تشير إلى أن أصحاب المخابز يتاجرون بالدقيق، وأفادت المصادر: إذا حدث ذلك يتم إيقاف الحصص وتحويل المتورطين إلى الجهات الأمنية للمحاسبة والمعاقبة، لأن هذا السلوك يدمر السلعة ويزيد من سعرها، ودعت ذات المصادر المحليات بعدم التصديق بإنشاء مخابز إلا بعد الرجوع إلى الجهات المعنية المتمثلة في الاتحاد والهيئة.

الصيحة.