جعفر عباس

أن تعطي يسعدك أكثر

كتبت أمس عن المزارع الاسكتلندي فليمنغ، الذي أنقذ صبيا من الموت غرقا في الوحل في مستنقع في اسكتلندا، فكافأه والد الصبي بأن ألحق ابنه بمدرسة خاصة على نفقته، وتفوق الفتى وصار طبيبا، هو ألكسندر فليمنغ مكتشف البنسلين، الذي استخلصه من روث الأبقار والعفن في حظائر المواشي، وكان الطفل الذي تم إنقاذه من الموت مختنقا في الوحل هو ونستون تشرشل أشهر رئيس حكومة في بريطانيا، ومن عجائب الأقدار أن تشرشل الذي زامل ألكسندر في المدرسة لم يكمل تعليمه الجامعي، بل دخل المدرسة العسكرية بعد المرحلة الثانوية ثم تركها وعمل مراسلا حربيا مع جريدة »ذا تايمز«، وغطى المعركة التي انتصر فيها الجيش الإنجليزي عام 1889 على الجيش السوداني الوطني الذي سبق له أن طرد الأتراك من البلاد، ثم دخل الميدان السياسي وقاد أوروبا بأجمعها في الحرب على هتلر والنازية، وكان الشاهد في القصة أن المعروف والجميل لا يضيعان لأن النفس البشرية مجبولة على عمل الخير، وقلة من البشر هي التي تقابل الصنيع الجميل بالنكران والجحود. ولا أفتأ أكتب عن إعجابي اللامحدود بصاحب شركة مايكروسوفت بيل غيتس، ليس لأنه غني، وقد يسمع بإشادتي به ويوصي لي بواحد على الألف من ثروته )أي بضع مئات الملايين(، ولكن لأنه قرر ترك وظيفته في الشركة والتفرغ لمكافحة الفقر والمرض والجهل في إفريقيا وآسيا، وخصص لهذا الغرض 60 مليار دولار من ثروته الخاصة، ولكن وارين بافيت كبر في نظري لأنه على الرغم من أنه ملياردير من الوزن الثقيل لم يتردد في التبرع بـ31 مليار دولار لبيل غيتس.

شوف: ملياردير يتبرع لملياردير؟ يا للهول. فعلها بافيت لأنه يعرف أن مؤسسة غيتس الخيرية تقوم بعمل نبيل، فقرر أن يهبه ذلك المبلغ الضخم وكله ثقة في أن غيتس سيستخدمه لما فيه خير البشرية، وبالمقابل فإن بعض الأغنياء عندنا لا يتبرعون بمليم نحاسي حتى لشخص يتوقف شفاؤه من مرض عضال على بضعة دريهمات، ما لم تكن الكاميرات حاضرة.

البروفيسورة إليزابيث دان من جامعة بريتش كولومبيا الكندية والدكتور مايكل نورتن من جامعة هارفارد الأمريكية أجريا دراسة مطولة عن الناس والثراء والسعادة، وبعد استطلاعات شملت عشرات الآلاف استنتجا أن غالبية الناس تجد سعادة في العطاء أكثر من السعادة في اكتناز المال، فالإنسان يسعد بالمال في بادئ الأمر ولكن ما إن تتوافر لديه أساسيات الحياة حتى يفقد المال كونه عنصر »إسعاد«؛

بعبارة أخرى فإن غالبية الناس الأسوياء تسعد بتقديم التبرع أو العون المادي ولو كان ضئيلا لآخرين. شخصيا لا أملك من المال ما يجعلني في وضع أحل فيه مشكلات الآخرين، ولكنني أسعد كثيرا بجمع ملابس أفراد أسرتي وجيراني ومعارفي وتقديمها لجمعيات رعاية الأيتام في الدول الفقيرة، وتزداد سعادتي عندما أغافل ولدي وأحشر بين تلك الملابس قميصا جديدا له، أو حذاء رياضيا من نايكي أو أديداس اشتراه من وراء ظهري بابتزاز أمه عاطفيا، وأتخيل صبيا في مثل سنه في الصومال أو مخيمات دارفور صار ذلك الحذاء من نصيبه فينام من فرط فرحته به وهو يحتضنه، وأتذكر ذلك اليهودي السوداني الذي رآني في دكانه لبيع النظارات أنظر في حسرة إلى فريم )إطار( جميل بينما المبلغ الذي كان في يدي كان أقل من نصف ثمنه، فما كان منه واسمه )موريس غولندبيرج( إلا أن أخذ مني قريشاتي القليلة وقدم لي الفريم الذي اشتهيته.. وأجمل ما في الموضوع أن موريس اضطر إلى مغادرة السودان ولكنه رفض التوجه إلى إسرائيل عدو »وطنه السودان« وهاجر إلى سويسرا.
وتنازل عن ملكية المتجر المطل على القصر الجمهوري بكامل محتوياته لاختصاصي البصريات السوداني »الأصلي« الذي كان يعمل معه.
‏‏‏‏

زاوية غائمة
جعفر عبـاس