تحقيقات وتقارير

ملايين الجنيهات تصرف سنوياً على الدورة المدرسية دون تحقيق نتائج على أرض الواقع…

لن نذهب بعيداً في غور السنوات الغابرة للبحث في أضابيرها عن إنجازات الدورة المدرسية القومية التي درجت وزارة التربية والتعليم العام على توزيعها سنوياً بين ولايات السودان المختلفة، دون مراجعة كلفتها الباهظة أو تقييم نتائجها التي تتضاءل باستمرار أمام الزخم المصاحب لها!
قلنا لن نذهب بعيداً، بل نكتفي بتسليط نظرة مدققة على آخر خمس دورات لهذا المهرجان الضخم، ونبدأ من ولاية النيل الأزرق مروراً بسنار وشمال كردفان والنيل الأبيض، وأخيراً ولاية كسلا، التي سوف تفتتح بها آخر الدورات اليوم السبت.
خلال هذا التحقيق نبحث عن إجابات واضحة لأسئلة محددة، هي كم التكلفة المالية للدورة المدرسية؟ ما هي إنجازاتها التي خلفتها وراءها في كل ولاية أقيمت بها خلال خمسة أعوام مضت؟ ألم يستنفد هذا الحدث أغراضه بعد؟ وأخيراً، ما الجدوى من تحمل الولاية المعنية لهذا العبء الثقيل؟
(1)
بدأت الدورة المدرسية في ستينيات القرن الماضي كحدث فريد وقتها، اهتمت فقط بالجوانب الإبداعية لطلاب التعليم العام، لكن في السنوات الأخيرة توسعت فكرتها لتضم أنشطة وأغراض أخرى من أجل تحقيق أهداف ومرام سامية للولاية التي تُقام بها وفقاً لهيثم إبراهيم، عضو سابق بإحدى لجان التشييد والمنشآت لإحدى الدورات السابقة، ويضيف هيثم: “من أهم أسباب توسع غرض الدورة المدرسية هو بناء بنية تحتية جيدة خاصة بأنشطة الشباب والطلاب بالولاية التي تقام بها الدورة”.
ويستطرد هيثم: “فكرة بناء بنية تحتية بأموال الدورة المدرسية، هدف سام يستحق الدعم والمؤازرة لو أنه أصاب المرمى وولو لمرة واحدة، لكنه للأسف لم يحقق النتيجة المطلوبة، وأثبت فشله بصورة قاطعة على مدى السنوات الماضية”. أيضاً فشلت الدورة المدرسية في تقديم مواهب في ضروب الإبداع المختلفة، كما يؤكد هيثم الذي قال: “صارت الدورة المدرسية عبارة عن تجمع بشري لأكثر من (8000) شخص لعدة أيام في مدينة بعينها، ومن ثم ينفض الجمعُ تاركاً الولاية التي استضافته غارقة في وحل الديون المليارية”.
(2)
تبدأ الدورة المدرسية مبكرا في استنزاف الخزينة العامة للولاية التي تسعى لاستضافتها، حسب أحد مديري النشاط الطلابي – اشترط حجب اسمه – ونفترض له اسماً مجازياً هو صلاح عبود، حيث يقول لـ(اليوم التالي): “لا تجني البنية التحتية للمدارس في الولاية التي تستضيف هذا الحدث الباذخ أي فائدة، وكل الذي تحصُلَ عليه هو صيانة خفيفة للفصول وإنشاء حمامات فقط لعدد منها لا يتجاوز (10) مدارس غالباً، ليتم تحويلها إلى داخليات لاستضافة الطلاب القادمين من الولايات”. والحديث لصلاح عبود الذي يضيف: “أما المشاريع التي تشرع الولاية في إنشائها فلم يحدث أن اكتملت في أكثر من ولاية استضافت الدورة المزعومة، وهو ما حدث في سنار وفي الدمازين والنيل الأبيض، وهذه طبعاً كلها خسائر بالملايين يتم هدرها سنوياً. بجانب الخسائر المالية الكبيرة للدورة المدرسية هنالك باب استنزاف الآخر، وهو واحد من مئات الأبواب التي يخرج بها المال من الخزينة العامة، وهذا يسمى تدريب الطلاب الذين يتم بهم الافتتاح والختام، فهؤلاء يشتركون في برنامج تدريبي يستمر لشهرين على الأقل، وهو برنامج لا يتسبب في تعطيلهم من الدراسة فحسب، بل تخسر الولاية عليه أموالا طائلة تتجاوز مليون جنيه على الأقل”.
(3)
تُقَام الدورة المدرسية على برنامج رئيس وبرامج مصاحبة على حد إفادة الطيب عبيد، وهو معلم بالمرحلة الثانوية، حيث يقول: “كل برامج الدورة المدرسية هي ذات البرامج التي يقدمها الطلاب في المدارس، كالغناء، وإلقاء الشعر، والعزف على الآلات الموسيقية، والخطابة، وكرة القدم وبقية الأنشطة التي يمارسها الطلاب”. والحقيقة أن البرنامج الرئيس يشبه البرنامج المصاحب في كل شيء، فقط الاختلاف بينهما أن الأول يقام على المسرح الرئيس والثاني يقام في منطقة طرفية، أما مضمونها فواحد، وهما ذات البرامج التي يقيمها طلاب التعليم العام بمدارسهم، لا اختلاف كثير بين هذه وتلك. هكذا تتكرر برامج الدورة المدرسية، وفي كل يوم تقدم ولايتين برنامجهما الرئيس ومن ثم تذهبان لتكرراه بنفس الرتابة في المواقع التي تقام فيها البرامج المصاحبة حتى تنتهي ويعود الطلاب إلى مدارسهم بعد تعطيل يستمر لأكثر من عشرين يوماً.
(4)
الجانب المهم في القضية برمتها هو هل فعلاً يتم إنشاء بنية تحتية بالولايات التي تستضيف هذا الحدث الضخم؟
الإجابة على السؤال قطعاً لن تسُر بأية حال من الأحوال، ولكن دعونا نعود قليلاً لبداية الحدث وبالتحديد الثلاثة أيام التي تسبق تسليم شعلة الدورة للولاية المرشحة لاستضافة الحدث.
يقول مصدر مطلع، فضل عدم ذكر اسمه، إن الولاية المعنية تُخطر رسمياً قبل ثلاثة أيام من تسلمها للشعلة، ويُطلب من الوالي تحديد أولوياته ونواقصه وتكلفتها المالية، وعندما يقدم والي الولاية فاتورة الاحتياجات قد يتم التصديق له بها كاملة وقد يتم تخفيضها، لكن في النهاية يحصل على مبلغ كبير من المال لأجل الشروع في التجهيزات المطلوبة، ويشير المصدر إلى أن أهم مشروعات البنية التحتية التي صارت الولايات تركز عليها، هي استاد أُولمبي، وملاعب للكرة الطائرة وكرة اليد والسلة وحوض للسباحة.
نعود للسؤال، هل فعلاً أنشأت الولايات التي أقيمت بها الدورة مؤخراً هذه البنيات المهمة، الإجابة للأسف وبكل وضوح هي لا.
لم تكمل أي ولاية بدءاً بولاية النيل الأزرق وسنار والنيل الأبيض وكسلا التي سوف تُفتتح دورتها غداً هذه المنشآت الكبيرة، ونستثني شمال كردفان لأسباب، منها أنها جمعت بين ملايين النهضة التي ابتدعتها وبين الدعم الاتحادي للدورة المدرسية، فأكملت الاستاد ولم تفكر في بقية المنشآت الأخرى.
(5)
نعم، لم تكمل هذه الولايات مؤسسات البنية التحتية رغم مرور سنوات على قيامها، وبعضها تم إهماله تماماً كما رصدته كاميرا (اليوم التالي)، فولاية النيل الأزرق لم تشرع من الأساس في تشيد مبان للدورة رقم (23)، وقد أقيمت مناشط تلك الدورة على ملاعب ترابية عادية وانتهى الأمر على ذلك، والعذر الواضح أنها كانت منطقة حرب في ذلك الحين، لكن اختلف الأمر مع الدورة رقم (24) التي أقيمت بولاية سنار بحسب أحد أعضاء لجنة التشييد والمنشآت بتلك الدورة، فأشار إلى أن الولاية قدمت في بادئ الأمر ميزانية قيمتها (54) مليون جنيه للمركز، هذا غير الميزانية التي اقتطعتها من دخلها الذاتي والتبرعات التي حصلت عليها من الولايات الأخرى.
شرعت سنار بحسب عضو اللجنة المشار له في تشييد الاستاد الأولمبي ومسبح بمواصفات جيدة، بالإضافة لعدد من ملاعب الكرة الطائرة وكرة اليد، وقد قطع العمل في تلك المنشآت شوطا مقدرا قبل افتتاح الدورة، وكان يسير بخطى حثيثة ولكنه بدأ يتراجع بعد نهاية برامجها إلى أن توقف تماماً حالياً، ما جعلها تتحول لخرابات وسقط وتصدع بعضها كما حدث للاستاد الذي فاقت ميزانية تشييد جزء منه أكثر من ثلاثين مليون جنيه، وعقب توقف العمل فيه بدأ يتصدع وانهارت جوانب منه على الأرض، كما توضحها الصور المرفقة هنا، وانتهت بذلك أسطورة مرفق ظل المواطنون يعولون عليه كثيرا ويترقبون اكتماله.
(6)
انتهت دورة ولاية سنار واتجهت الأنظار لولاية شمال كردفان التي احتضنت الدورة رقم (25)، ولكن واليها أحمد هارون قام بخلط الأوراق ودمج بين أموال مشروع النهضة والأموال التي جاءت للدورة، بحسب مقربين منه، ويحمد له أنه أكمل تشييد استاد باهر بالولاية كأبرز إنجازات تلك الدورة.
ثم اتجهت شعلة الدورة من الأبيض إلى ربك حاضرة النيل الأبيض التي أقيمت بها الدورة رقم (26)، وهي دورة أحدثت واقعاً مريراً سوف يظل ملازماً لولاية النيل الأبيض لسنوات طويلة قادمة، وفقاً لعدد من أصحاب الشركات الذين رست عليهم عطاءات تنفيذ مشاريع الدورة، إذ يقول: هؤلاء مجتمعين “مشاركتنا فيها كانت وبالاً علينا، فقد عجزت الولاية عن الإيفاء بالتزاماتها تجاهنا مما جر عدد منا لأقبية السجون خلال الفترة الماضية”. والحديث لأصحاب الشركات – حيث أكدوا أن من لم يدخل منهم السجن لا يزال يطارد حقوقه لدى حكومة النيل الأبيض.
وبعيداً عن الديون الباهظة التي راكمتها الدورة رقم (26) على ظهر حكومة النيل الأبيض، رصدت كاميرا (اليوم التالي) أن أبرز منشآت تلك الدورة استاد وحيد بمدينة ربك لم تتمكن الولاية من إكماله حتى هذه اللحظة رغم المبالغ المالية الكبيرة التي رصدت للغرض.
المثير أن ذات السيناريو ينطبق الآن على ولاية كسلا التي لم تكمل حتى اللحظة أي من مشاريع الدورة التي يتوقع أن تُفتتح اليوم، ويتوقع مراقبون أنها سوف لن تختلف عن مثيلاتها، فبمجرد مغادرة الوفود للمدينة يصيبها البوار، وسوف تتحول لخرابات مهجورة.
(7)
المؤكد من خلال رصد (اليوم التالي) وإفادات عديدة لمطلعين على الأمر، يتضح أن أغلب منشآت الدورات الماضية لم تكتمل بعد، بجانب هذا لا يستطيع أحد التنبؤ بقيمة التكلفة المالية الحقيقية لهذا البرنامج السنوي، ولكن التقديرات الأولية تشير إلى أن الأموال التي تصرفها الدولة على مستوى المركز وما توفره الولاية المعنية من دخلها المحلي، بجانب المساهمة المفروضة على الولايات الأخرى والتبرعات الشخصية من المواطنين، وحده هذا المبلغ كفيل بإصلاح حال التعليم في جميع ربوع الولاية التي تقام به الدورة. هذه رؤية مختصين مطلعين على الأمر، ولكنهم يعودون ليؤكدوا أن جهات لها مصالح مرتبطة بصورة مباشرة بقيام الدورة المدرسية لن تتوانى في بذل الغالي لأجل أن يستمر هذا الهدر المالي، رغم أن البرنامج نفسه استنفد أغراضه وأصبح عبئاً ثقيلاً على كاهل الولايات التي صارت تغرق نفسها في ديون لا حاجة لها بها.
وبالخوض في لجج هذا البرنامج المكلف مالياً ومرهق بشدة للطلاب، تبقى الضرورة ملحة لصدور توجيهات بترشيده أو إلغائه والاستعاضة عنه بتحويل الأموال التي تنفق فيه لأعمال ترفع من مستوى التدهور في بيئة التعليم العام.

اليوم التالي.