جعفر عباس

لهاث وتقطع نفاس


كنت إلى ما قبل يومين أحس بالشفقة والرثاء تجاه من نسميه في السودان صاحب القلب »الميت«، ونعني به الشخص الذي لا ينفعل بسهولة، ويتقبل أعتى الحوادث بهدوء، ويتعامل مع الأشياء »ببرود« أي بتؤدة من دون إتيان وردود أفعال تنم عن أنه على عجل أو منزعج، كما كنت أرثي بصفة عامة لحال أولئك الذين كنت أعتقد أن إيقاع حياتهم بطيء.
ثم قرأت عرضاً مطولاً لكتاب بالإنجليزية عنوانه: »في مدح البطء« لكارل كلوري، وأدركت على الفور لماذا أنا متوتر على الدوام، ليس بمعنى أنني عصبي ومكشَّر على نحو دائم، ولكن بمعنى أن هناك ما يشغلني أو ما ينبغي أن أؤديه طوال ساعات يقظتي، وقتي مليان زيادة عن اللزوم، ومنذ سنوات طويلة وأنا أطالب بجعل اليوم 40 أو على الأقل 37 ساعة.
أول ما نفعله معظمنا عند الاستيقاظ هو النظر إلى الساعة، ومن دون مبالغة كان عندي في البيت 14 ساعة حائط ومنبه، أينما تلتفت في بيتنا كنت تجد ساعة تذكرك ليس فقط بعمرك الذي انقضى بل بأنك »تأخرت«، ثم جاء الموبايل والتوقيت يتسنتر )في السنتر/ المركز( في شاشته، ولم أعد أستخدم حتى ساعة اليد/ المعصم، وقد اكتشفت أنه كان لوجود تلك الساعات دور مهم في تذكير ضيوفي بأنهم قضوا وقتاً طويلاً عندي، وقد سمعت مراراً عبارات مثل: يا إلهي.. الساعة تسعة وربع )وليس تزعة كما يزعم بعض الأعراب على ألسنتنا(.. وعندي مشوارين كنت ناسيهم!! فأقول في سري: كان الله في عون من ستداهمهم في المشوار الثاني!!
ملخص كتاب كلوري جعلني أنتبه إلى حياتي، لهاث في معظمها، وكل ساعة من ساعات يقظتي مبرمجة لمهمة ما… انتبهت إلى أنني أقرأ الصحف وأنا أشاهد التلفزيون كسباً للوقت، ولم أكن أدرك أنني بذلك لا أُحسن لا قراءة الصحف ولا متابعة التلفزيون، وانتبهت إلى أن مجلتي نيوزويك وتايم الأمريكيتين مستقرتان على الدوام عندي في دورة المياه.. أذهب إلى الحلاق أو إلى العيادة حاملاً كتاباً أو مجلة… إذا ذهبت إلى مطعم مع عائلتي ألمح نظرات الاستياء على وجوه عيالي عندما أطلب الفاتورة قبل وصول أطباق الحلويات التي طلبوها، وكنت إلى ما قبل سنوات قليلة لا أقود سيارتي بأسرع من ستين كيلومتراً تحت أي ظرف، ومؤخراً رفعت السرعة إلى ثمانين… أعرف أن الكثيرين يعتبرون قيادة السيارة بسرعة 80 كيلومتراً أمراً يبعث على النعاس، ولكنني أعرف أن السيارة لا تفرمل إلا بعد نحو أربعة أمتار وهي تسير بسرعة 80 وأنه لو حدث طارئ استدعى وقوفي المفاجئ فحتماً سأتسبب في حادث قد يكون ضحيته آدمي، ولو تسببت في أذى آدمي فلا أعتقد أنني سأكون قادراً حتى على المشي على قدمي.
منذ أن أستيقظ أعرف ماذا أفعل بكل دقيقة من وقتي.. سأذهب إلى المكتب وأبدأ بفتح الكمبيوتر باليد اليسرى بينما اليمنى تمسك بكوب الشاي تارة وبالجريدة تارة.. وأدخل على بريدي الإلكتروني الرسمي، ولأن الانتقال من رسالة إلى أخرى يتم ببطء شديد )إذ يستغرق نحو ثوان!!( فإنني أقلب الأوراق التي أمامي أثناء قيام الكمبيوتر بالانتقال من رسالة إلى أخرى.. ولا أرد على أي رسالة بأكثر من سطرين.. ومع هذا فإنني أظل متوتراً إلى أن أطالع كافة الرسائل وأرد عليها.. مع أن معظمها يأتيني من أشخاص لم ألتق بهم قط. )طبعا أتفقد رسائل واتساب على رأس كل ساعة(. وأتذكر أنني لم أتصل بإخوتي منذ أكثر من عشرة أيام، فيؤنبني ضميري ولكنني أؤجل مهاتفتهم إلى موعد آخر، متعللا بأنهم سيفتحون معي مختلف المواضيع بينما أنا »مش فاضي«.. فما هو ذلك الأمر الجلل الذي يمنعني من تخصيص بضع دقائق لأعز الناس عندي؟ ليس هناك أمر جلل يمنعني من ركوب الطائرة للجلوس معهم وجهاً لوجه.. ولكنه اللهاث الذي صار ميسماً لحياتنا وينهش عافيتنا.
‏‏‏‏

زاوية غائمة – جعفـر عبـاس