هم وين ونحن وين
»باب ستور« جزيرة تتبع لمجموعة جزر شيتلاند البريطانية، وعاشت لحين من الدهر أزمة خطيرة تتعلق بالمسألة التعليمية، حين بقيت المدرسة الوحيدة فيها مغلقة عاما دراسيا كاملا، نتيجة إضراب طلابي عن الدراسة احتجاجا على تعيين إحدى المعلمات للتدريس بتلك المدرسة، وقالت الصحف البريطانية، إن تكليف السيدة جين باكي بالتدريس في تلك المدرسة هو الذي قاد إلى إضراب وإغلاق المدرسة، وإن السلطات التعليمية البريطانية قررت مؤخراً إلغاء تعيين باكي، ما أدى إلى استئناف الدراسة وعودة طالبتها إليها )نعم طالبتها فليس في الأمر خطأ لغوي أو مطبعي(، فالمدرسة تلك تضم طالبة واحدة، في جزيرة يبلغ تعداد سكانها 24 فرداً، وكانت المدرسة قد أُسست أصلاً من أجل طالبين فقط، ولكن أحدهما بلغ المرحلة الثانوية، وانتقل إلى اسكتلندا، وبقيت طالبة واحدة رفض والدها أن تقوم جين باكي بتدريسها فكان الإضراب، وإرغام السلطات التعليمية على استبدالها. لا يهمني هنا لماذا رفض والد الطالبة أن تقوم باكي بتدريس ابنته بل يهمني أنه كولي أمر له كلمة مسموعة عند السلطات التعليمية.
عملت فترة قصيرة مدرساً في مدرسة ثانوية خاصة بأبناء جنوب السودان اسمها رُمبيك، وكانت في مقر مؤقت بالعاصمة السودانية الوطنية أم درمان، لأن اشتعال التمرد في جنوب البلاد جعل استمرار المدرسة في مقرها صعبا، إن لم يكن مستحيلا، وكان المقر المؤقت عبارة عن بيت عادي من الطين تم تحويل حجراته الضيقة إلى غرف دراسة، وكانت بعض الغرف تضم 60 طالباً، وكان على من يجلس في الصفوف الخلفية ان يقفز فوق الطاولات والكراسي محدثا جلبة عالية لينحشر في مكان ما، وعند حلول موعد الاستراحات بين الحصص المدرسية، كان جماعة المقاعد الخلفية يقضون معظم وقت الاستراحة وهم يقفزون فوق الأثاث البائس ليغادروا غرف الدراسة لتناول وجبة أو شربة ماء، وخلال اجتماعات هيئة التدريس قدمت أكثر من احتجاج على بؤس حال تلك الغرف وملحقاتها، وطالبت وآخرون مدير المدرسة ببذل بعض الجهد لدى وزارة التربية لإيجاد مبنى لائق للمدرسة، وقابل وفد من المدرسين لم أكن من بينهم، وكيل وزارة التربية لبحث الأمر معه فقام الوكيل بتفقد المبنى واقتنع بأنه لا يصلح حتى مخزناً للعلف واستبشرنا خيراً.
وذات يوم احتل الطلاب المدرسة وامتنعوا عن مواصلة الدراسة، احتجاجا على بؤس البيئة التعليمية، وبعدها بساعات تم استدعائي إلى مكتب المدير ووجدت فيه ثلاثة رجال ملامحهم بلاطية لا تعبر عن أي شيء. كانوا رجال المباحث واقتادوني إلى السجن بتهمة إثارة الفتنة، و… تحريض الطلاب على الإضراب عن الدراسة، وطبعاً لم يكن وارداً أن أقول للناس إنني سجنت بسبب تلك التهم البائسة، فصرت أزعم بأنني كنت متهماً بمحاولة قلب نظام الحكم، والتخابر مع العلوج، ومحاولة فصل شمال السودان عن بقية أنحاء القطر عن طريق النضال المسلح.
لتتضح المفارقة بين مدرسة رمبيك التي كانت تعاني من انفجار سكاني، وتلك المدرسة في جزر شيتلاند، أقول إن الأخيرة التي تضم طالبة واحدة بها كل التجهيزات وثلاثة كمبيوترات ومختبر للعلوم وقاعة للرسم والفنون وملاعب ومسكن به ثلاثة غرف نوم إحداها تستخدم من قبل الطالبة خلال فترات الراحة. ليست القضية كون السودان بلداً فقيراً بينما بريطانيا غنية، ففي كثير من الدول العربية الغنية تجد مدارس لا تصلح أسواقاً لبيع الخضراوات )أكثر ما يميز أسواق الخضراوات في الدول العربية هي أنها ملاذ آمن للذباب والحشرات الطائرة(.. القضية هي أن حكاية مدرسة شيتلاند تعكس كيف أنهم يحترمون حق الفرد في تلقي التعليم في بيئة صالحة، بينما ما يهمنا من أمر التعليم هو الإحصاءات: لدينا 9768 مدرسة و356 معلماً ومعلمة، وطبعنا 786653438 كتاباً مدرسياً و56743 برشاماً.. ولو تذمر ولي أمر طالب أو طالبة من أمر مدرسي يتم اتهامه بزعزعة الوحدة الوطنية، أما إذا كان المتذمر معلما، فإنه يعتبر من ذوي الاحتياجات الخاصة لكونه يعاني من خلل عقلي ويتم فصله من الخدمة!
زاوية غائمة – جعفر عبـاس