كرمة ودنقلا بين العالمين بونيه وهيكوك
كلما أقرأ لعالم الآثار السويسري بروف شارلس بونيه حديثاً عن حضارة كرمة التي أثبت أنها الأولى والأقدم والأرسخ في أفريقيا، سابقة بذلك الحضارة الفرعونية، ينتابني الخوف على حياة الرجل وأتذكر ما حدث لبروف هيكوك عالم الآثار الإنجليزي وأستاذ التاريخ بجامعة الخرطوم الذي قتلته مخابرات دولة مجاورة بدم بارد في بداية سبعينيات القرن الماضي.
كنا وقتها طلاباً في جامعة الخرطوم حين تناقلنا خبر بروف هيكوك الذي قُتل بينما كان يتريّض، ممتطياً عجلته في شارع النيل بجوار الجامعة.
كان هيكوك عالماً شاباً محباً للسودان مفتوناً بآثاره وكان، حسب علمي، أول من نبش ونقّب في أصل الحضارة الفرعونية من خلال البحث والمقارنة بينها وبين الحضارة السودانية، وبدأ يكتب في المجلات العالمية عن سبق الحضارة السودانية، فما كان من مخابرات تلك الدولة التي ترفض أن ينافس حضارتها أحد كائناً من كان ناهيك عن أن يكون ذلك الكائن هو السودان المُحتَقر ترابه وإنسانه عندها، فما كان منها إلا أن أردت الرجل قتيلاً بحادث حركة لم يُعرف مرتكبه حتى الآن وذلك لتجرّؤ هيكوك وتطاوله على حضارة (أم الدنيا)!
بالطبع ذبحت العلاقات (الأزلية) الحادث وسكت عنه حتى اليوم، أما هيكوك فقد جاءت أمه من بريطانيا لكي تشهد تأبينه ودفنه في السودان الذي أحبه وأوصى بأن يدفن في ترابه، ولست أدري هل أولت جامعة الخرطوم الرجل أي اهتمام بعد ذلك؟!
أخاف على كنز نحتاج إليه كثيراً يُسمى شارلس بونيه الذي ينشط في السودان وفي أوروبا لتجلية الحقيقة المُرة على مبغضيها المُصرّين على احتكار الحضارة والتاريخ والجغرافيا، فها هو الرجل يُقدم قبل أيام محاضرة بقاعة الصداقة بعنوان (الاكتشافات الأثرية الحديثة) تحدّث فيها عن حضارة كرمة في إطار فعاليات مهرجان البركل.
إني لأرجو من لجنة الثقافة والآثار بالمجلس الوطني دعوة بونيه ليقدم محاضرة عن اكتشافاته في القاعة الخضراء بالبرلمان يحضرها جميع أعضاء الهيئة التشريعية القومية.
أود أن ألفت نظر بعض المؤرخين والكتّاب من أمثال بروف أحمد الياس ود. صلاح محمد أحمد ود. حسن عابدين ومحمود عثمان رزق الذي كتب بحثاً حول هجرة سيدنا موسى الأولى والثانية، ألفت النظر إلى ما أورده ابن كثير في تفسيره حين قال إن سَحَرة فرعون كانوا من (دنقلا)، وقد سمعتُ هذا في فيديو لشيخنا الدكتور عبد الحي يوسف.. ولعلّ ذلك يُضيف إلى تفسير الآية القرانية (وأرسل فرعون في المدائن حاشرين) والذي ربما يُثبت أن دنقلا كانت جزءاً من مملكة فرعون موسى (رمسيس الثاني) وكانت من المدن المتطورة المتحضرة الشهيرة التي يُستجلَب منها الخبراء لتفوقها الحضاري والتي ربما هاجر إليها موسى هرباً من بطش فرعون سيما وأن الهجرة جنوبا بمحاذاة النيل أيسر من الهجرة شرقاً عبر الصحراء إلى سيناء والله أعلم!
أذكر أنني عندما طرحت في إحدى جلسات الأنس قصة السحرة ومدينة دنقلا قال بعض الحضور إن (ناوا) القريبة من دنقلا لا تزال مشهورة بالسحر !
أرجع فأقول إن السياحة من أكبر موارد الاقتصاد المصري، وقد تجاوزت في السنوات السابقة للاضطرابات التي أعقبت الانقلاب العسكري الجاثم الآن على صدر مصر (15) مليار دولار في العام ومعلوم ما تبذله مصر في الترويج السياحي، ويكفي أن بعض آثارها منصوبة في عدد من المدن العالمية وقد رأيت بعيني رأسي إحدى المسلات الفرعونية في قلب شارع الشانزلزيه بالعاصمة الفرنسية باريس.
كم بربكم من الآثار نُهب خلال فترات الاستعمار الثنائي أو حتى أيام الحكم التركي المصري وضُم إلى الحضارة الفرعونية، بل كم طُمر تحت بحيرة السد العالي التي تُعتبر أكثر المناطق اكتنازاً بالآثار السودانية، وهل كان إغراق الآثار السودانية جزءاً من الأهداف التي وُضعت لإقامة السد العالي؟!
أختم بالقول إننا نحتاج إلى إيلاء السياحة اهتماماً أكبر حتى تُسهم في التخفيف من أزماتنا الاقتصادية كما نحتاج إلى تمويل حملة عالمية يُستعان فيها ببونيه الذي كتب حسب ما قاله تلميذه د. صلاح محمد أحمد مئات الكتب والأبحاث عن حضارة السودان وبغيره من علماء الآثار والتاريخ للكشف عن سبق وعظمة الحضارة السودانية.
الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة