آمنة الفضل

المخاض الأخير


رَغْم الأَلَم الذِي كَانَتْ تَشْعُرَ بِهِ تَحِيّة فِي تِلْكَ اللحظاتِ نَظَرَتْ إليها، وبِصَوْتٍ مُتَقَطِّع مُرَدِدَّةً : كُلُّهُ بِيدِ الـلهِ، ولَمْ يَنْقَطِعْ صَوْتُ أَنِينِهَا، وأَنْفَاسِهَا المُتَصَاعِدَة، والتِي كَانَتْ مَصْحُوبةً بِكَلِمَاتٍ لَمْ يَفْهَمْهَا أَحَد، لَكِنَّها كَاَنتْ آخر مَا تَفَوَّهَتْ بِهِ قَبْل قُدومِ مَوْلُودِهَا الذِي جَاءَ إِلى الدُنيا بِصَرْخَةٍ أيْقَظَتْ حَاجَّة أُمّ الحَسَن مِنْ غَفْوَتِهَا مَذْعُورَةً: هَلْ مَاتَتْ تَحِيّة؟
رَدَّتِ القَابِلَةُ: إِنَّهُ صَوْتُ المَوْلُودِ.
– إِذَنْ هِي لَمْ تَمُتْ يَا لَهَا مِنْ اِمْرَأَةٍ مَحْظُوظَة!

جَاءَ صَوْتُ تَحِيّة هَزِيلاً بَيْنَمَا كَانَتْ تَتَصَبَّبُ عَرَقَاً، وعَيْنَاها غَارِقَتَان بِدُموعٍ خَالَطَتْهَا أَحَاسِيسٌ كَثِيرَةٌ: أَلَا تُحِبِّين رؤيةَ الصَّبِي يَا حَاجَّة؟
-كان وَقْعُ تِلْكَ الكَلِمَات كَالصَّاعِقَةِ عَلَى حَاجَّة أُمّ الحَسَن؛ فَتَسَمَّرَتْ فِي مَكَانِهَا، وأَخَذَتْ تَنْظُرُ للنِسْوَةِ فِي دَهْشَةٍ، أَدَارَتْ وَجْهَهَا إِلى القَابِلَةِ، وحَمَلَتْ الصَّبِي بِلَهْفَةٍ كَبِيرَةٍ. ظَلَّتْ تَنْظُرُ إِليهِ، والفَرْحَةُ تَسْبِقُ أُنشودَتَها التِي هَمَستْ بِهَا فِي أُذْنِهِ، تَنَاثَرَتْ مَعَها الكَثِيرُ مِنْ الدُّموعِ عَلَى خَدَيها الغَائرَين؛ فَلاَحَتْ مَلَامِحُ الوَجْهِ الذي يختبئ وَرَاءَ تِلْكَ الصَّرَامَة التِي تَعَوَّدَ عليها الجَمِيعُ، فَقَد بَدَتْ فِي تِلْكَ اللحظة اِمْرأَةٌ أُخْرَى، مُرْهَفَةُ الحِسِّ، وقَلْبُهَا يَعِجُّ بِالعَطْفِ، ضَمَّتْ ابنَ أَخِيها إِلى صَدْرِهَا بِفَرَحٍ وسَعَادَةٍ، ثُمَّ قَالَتْ بِصَوْتٍ مَسْمُوع تُصَاحِبُه نَبْرَةُ اِفْتِخَارٍ:

« يا دوب ضهرك انطلق يا موسى أخوي » يُمْكِنُكَ الآن أَنْ تَرْفَعَ رَأْسَكَ للسَمَاءِ بِكُلِّ اِعْتِزَازٍ دُونَ أَنْ تُلاحِقُكَ نَظَرَاتُ أَهْلِ القَرْيَةِ، وهُمْ يَتَهامَسُون بِعَدمِ مَقْدِرَتِكَ عَلَى إِنْجَابِ الذُّكُورِ ، الآن سَتَغُورُ أَصَواتُهم إِلى دَاخِل حَنَاجِرِهِمْ وسَتَطْفِئُ نَظْرَتُكَ وَهَجَ أَعْيُنِهِمْ، ثُمَّ اِلْتَفَتَتْ إِلى النِّسَاءِ، وقَاَلتْ بِصَوْتٍ جَهُورٍ: لِمَ لَا أَسْمَعُ صَوْتَ الزَّغَارِيدِ يَهُزُّ المَكَانَ؛ هَلْ أَصَابَكُنَّ الخَرَس فَجْأَةً، هذا اِبن العُمْدَة أَيّتُها الحَمْقاَوات، فانطلقتْ أَصْوَاتُ النِّسْوَةِ بِالزَّغَارِيدِ التِي أَشْفَتْ غَلِيلَ حَاجّة أُمّ الحَسَن بَعْدَ عَهْدٍ مِنْ إنْجَابِ الإنَاثِ .
ووَسَط دَهْشَة الجَمِيع، وفَرْحَتهم حَمَلتْ اِبْن أَخِيهَا، وأَخَذَتْ تُرَدِدُّ بِأَعْلَى صَوْتِهَا:
«يَا عُمَّار البلد العُمْدَة مُوسى جَابَ الولد! » .

قصاصة أخيرة
تلك كانت نهاية القصة على الورق وبدايتها في الواقع

قصاصات – آمنه الفضل
صحيفة الصحافة