جعفر عباس

مِهن ومِحن (18)

[JUSTIFY]
مِهن ومِحن (18)

ما من بيت مُتقن البناء، وحسن التجهيزات من كهرباء وشبكة مياه وأنابيب تصريف، إلا ويعاني في مرحلة ما اختناقات واختلال في تلك الشبكة والتجهيزات يستوجب الاستعانة بفني كهرباء او سباكة، وكما قلت في مقال سابق في هذه السلسة فإن الحرفيين بصفة عامة هم أكثر خلق الله في ميدان «عدم احترام المواعيد»، وفي أي مدينة وبيت أقمت فيه، وجدت نفسي مضطرا للاستعانة بكهربائي أو سباك، وتخيل شخصا يعيش في منطقة الخليج، وينقطع التيار الكهربائي عن بيته في الصيف لخلل في الشبكة المنزلية، ولأحد الظرفاء تفسير لا يخلو من معقولية لتفسير ظاهرة التدين في المنطقة: الخليجيون يعانون في شهري يوليو وأغسطس من حر يفسخ الجلد فيقول الواحد منهم لنفسه: هاذي حرارة جاية من شمس على بعد كذا تريليون كيلومتر، وش حال جهنم لو رموني في لهيبها مباشرة؟ استغفر الله وأتوب إليه ونسأله أن يجعلنا من أهل الجنة.. المهم ان شخصا تنقطع الكهرباء عن بيته صيفا في الخليج مستعد لتأجير طائرة خاصة تنقل فني الكهرباء إلى بيته ليصلح الخلل في الشبكة، وبما أن معظم الكهربائيين في المنطقة من الآسيويين، فإن طالب الاستنجاد بأحدهم يتلقى منه ردا مطمئنا: كمسة إشرين دقيقة أنا كون في بيت مال أنت!! هل يقصد أنه سيكون معي بعد كمسة دقيقة أم إشرين أم كمسة وإشرين دقيقة؟ وتمضي كمسة وإشرين دقيقة تلو الأخرى، وبعد ساعتين تعاود الاتصال به فيأتيك الرد: الهاتف الذي اتصلت به مغلق، فتنتقل أنت والعائلة إلى بيت أحد الأقرباء ثم تتصل بنفس الفني بعد مضي سبع ساعات على موعد الـ «كمسة إشرين دقيقة»، وتسأله: رفيق أنت ليش ما يجي بيت مال أنا سوي تصليح مال كهربا؟ فيرد عليك: ماليش بابا والله أكوك (أخوك) مال أنا سوي آكسدنت (حادث)، وأنا في هوسبيتال وما أدري هل هو في موت وللا ما في موت.. فتهمهم: إلهي يأخذك أنت وأكوك مال أنت.
خلال السنوات الخمس الماضية تعاملت مع ما لا يقل عن 13 سباكا، إما لعلاج انسداد في شبكة الصرف الصحي، أو انفجار الزائدة الدودية في شبكة المياه، أو عطل في الموتور (المحرك) الذي يوزع المياه داخل البيت، واستغرق تعاملي مع نحو سبعة منهم نحو سبع دقائق لكل واحد منهم، فما أن يبدأ في تهويل الأمور بأقوال مثل: لازم نغير الكوع وهذه الوصلة تحتاج إلى تبديل البوع والماسورة هذه (وطولها عشرة أمتار) صينية يجب استبدالها بأخرى هندية.. شغلانة تستغرق يومين وعشان خاطرك تدفع فقط 1500 ريال!! هنا أقول له: يطلع أرخص لو تبنيتك وخصصت لك غرفة في البيت مع توفير كافة خدمات الطعام والغسيل والنظافة.. اطلع يطلع جلدك.. وحاولت التحلي بطول البال مع السباكين الذين لا يمارسون الاستهبال والاستغفال بشكل فظ وفج، ولكن التعامل معهم يسبب لي ارتفاعا حادا في ضغط الدم الشرياني، لأن عبارة «أمُر عليك بعد صلاة الظهر» قد تعني «بعد صلاة العيد» أي بعد شهرين، وأنا أعرف أن طبيعة عمل السباك تجعل التزامه بالمواعيد التي يضربها للزبائن أمرا عسيرا عليه، فقد يدخل بيتا وهو يحسب أنه سيصلح خللا ما خلال نصف ساعة ويكتشف أن الأمر يتطلب ثلاث ساعات، ولكن مشكلة السباكين هي أنهم لا يميزون بين الساعة الواحدة، والأربع والعشرين ساعة، وأخيرا أكرمني الله بالتعرف على سباك سوري يحترم المواعيد فإذا قال إنه سيأتي في العاشرة من صباح السبت فإنه يأتي في العاشرة من صباح الأحد، وهذه أرفع درجة من الانضباط واحترام المواعيد وجدتها عند حرفي / فني.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]