سواكن..مدينة الإنس والجن
حينما صنفت منظمة السياحة العالمية السودان السابع عالميا من حيث المقومات السياحية, كان يعلم القائمون على أمر هذه المنظمة حجم المناطق السياحية في أرض مقرن النيلين، بيد ان الاهتمام بالسياحة لم يظهر في الأفق إلا قريبا جداً,
حيث بدأت بعض الولايات في تنظيم مهرجانات السياحة التي ضلت طريقها في بعض الولايات، ومن أهم الولايات التي تتنوع فيها ضروب السياحة هي ولاية البحر الاحمر التي تتمتع بمقومات سياحية كبيرة ولكنها فقط تحتاج للاهتمام ، فاذا نظرنا لساحل الولاية والذي يفوق السبعمائة كيلو متر طولاً يمكن الاستفادة منه لجذب السياح خاصة من يهوون الغطس في أعماق البحار، وهناك أركويت الرائعة بأجوائها وسنجنيب الجزيرة التي سجلت في اليونسكو وروعتها ، ثم تأتي المدينة الأهم في عالم الآثار وعبق التاريخ «سواكن» التي اكل الدهرعليها وشرب إهمالا في السنوات الماضية، وتعتبر سواكن من أقدم المدن ربما في العالم وبها الجزيرة التي تحمل الكثير من التاريخ الذي كاد يدفن بعدم العناية به وتطويره والاستفادة منه كجاذب سياح له رواده من الذين يعشقون التاريخ وحكاويه.
ما بين الغواصة وسنجنيب
قبل أن نسرد حكاية سواكن وإمكانيات جذبها لملايين السياح لولاية البحر الاحمر، أبهرتنا فكرة والي البحر الأحمر علي احمد حامد, وهو يفتتح خط مواصلات من مدينة بورتسودان الى جزيرة سنجنيب التي كان يعاني الكثيرون في الوصول إليها والتقاط الصور التذكارية في الجزيرة الساحرة، ومن الأشياء التي بإمكانها جذب السياح بصورة كبيرة هي الغواصة التي تم تدشينها قبل ايام معدودة والتي تسع لأعداد كبيرة من المواطنين الذين بامكانهم رؤية الشعب المرجانية وبعض الحياة البحرية على عمق عشرة أمتار وربما أكثر، ويتوقع ان تجذب هذه الغواصة الكثير من السياح المحليين والأجانب مما يدر الكثير من الأموال على خزينة الولاية المالية.
سجن نبي الله سليمان
كثيرة هي القصص والروايات التي تتحدث عن نشأة مدينة سواكن, والتي تبعد مسافة لا تزيد عن الستين كيلو مت اً من مدينة بورتسودان عاصمة ولاية البحر الاحمر, ولكن أكثر الروايات شيوعا هي التي تقول إن مدينة سواكن كانت نشأتها منذ عهد نبي الله سيدنا سليمان بن داؤد، وهذه الرواية أكدها لنا أحد ابناء المدينة ومن مواليدها والذي عرف بحفظه للكثير من المعالم وتاريخ المدينة حتى أنه عرف بمؤرخ المدينة . حيث قال لنا شنقراي ابراهيم شنقراي ان سواكن تعتبر من أقدم المدن ربما في العالم, وأضاف شنقراي الرواية الأساسية تقول ان سواكن كانت عبارة عن سجن للجان في عهد سيدنا سليمان, وكان يطلق عليها اسم «سواجن» ثم تحول الاسم بمرور الزمن لتصبح سواكن، فيما وضع شنقراي أمامنا رواية اخرى متداولة في المدينة , وهي ان نشأتها بدأت مع العهد الأموي في عام 1267م وهذا يعني ان عمر المدينة 750عاماً، ورجح شنقراي الرواية الأولى لبداية المدينة وهي انها نشأت في عهد سيدنا سليمان.
ميناء إفريقيا الأول
قدم مدينة سواكن جعلها بوابة لإفريقيا حيث كانت جميع البضائع المتجهة لافريقيا تأتي عبر ميناء سواكن, وكذلك حجاج افريقيا المتجهين لبيت الله الحرام كانت سواكن هي بوابتهم ومازالت لبعض الدول، وكان تعداد مدينة سواكن في تلك الفترة يفوق الخمسة وعشرين الف نسمة و مساحتها نصف كيلو في نصف كيلو . وداخل جزيرة سواكن يوجد على الجانب الأيسر بعد بوابتها المميزة ميناء الجمارك الذي تأسس عام 1289م من قبل الأتراك ومقابلة هذا المبنى كان يوجد المسجدان الحنفي والشافعي, حيث تأسس المسجد الحنفي في عام 1844م وكان نظام الحكم في تلك الحقبة بهذا المذهب. أما المسجد الشافعي فانه الأقدم حيث تأسس عام 1250م, ويقال ان المسجد الشافعي هو الثاني في السودان من حيث النشآة بعد مسجد دنقلا . وكان من اكبر المساجد لتعليم القرآن ومنارة لتعليم الفقة وأصول الدين ، وقال لنا شنقراي ان هناك بعض الروايات تقول ان شجرة الدر درست وتعلمت فيه أصول الفقه. ويسع المسجد اعداداً كثيرة من المصلين وهو مبني على الطريقة العثمانية وبه منبر للإمام لخطبة الجمعة ومنبر آخر للمأموم لإقامة الصلاة لانه لم يكن هناك مكبر صوت.
ممتاز باشا والقطن
وداخل هذه المدينة الأثرية الرائعة توجد الكثير من المباني المهمة لإدارة الدولة الى جانب منازل المواطنين. ومن المباني التي لها وضعها السياسي في تلك الحقبة كان ميناء المحافظة وهو مقر الحكم في تلك الفترة التاريخية, وكان بمثابة مقر لكل الحكومات التي تعاقبت على سواكن من التركية والانجليزية وحتى الرئيس الأسبق جعفر نميري كان يقضي أياماً في تلك المباني- حسب رواية شنقراي- حيث اسس الأتراك الطابق الأول في عام 1517م وبعض المؤرخين يقولون قبل هذا التاريخ, والطابق الثاني بناه أحمد ممتاز باشا في عام 1865م وكان محافظاً للمدينة حيث أدخل في عهده زراعة القطن، وقال لنا شنقراي ان ممتاز باشا كان مهندسا معماريا وعمل على تشجيع المواطنين على بناء منازلهم من عدة طوابق وكانت الطوابق الأرضية منها تستغل للعمل والأخرى للسكن.
أسرة في الجزيرة
اكتسبت مدينة سواكن أهمية اقتصادية كبيرة لوقوعها على ساحل البحر الأحمر شأنها شأن كل المدن الساحلية , وكان بها أكبر سوق عالمي وافريقي للصادر والوارد , وكل افريقيا كانت تأتي عبر هذه المدينة التي كان بها ميناء خاص بالركاب يسمى الكرتينة وكان يديرها خورشيد باشا قبل ان ينتقل للعمل مديرا عاما للسودان في عام 1877م. وكان خورشيد باشا هذا يسكن في مبنى تحت مبنى البنك الاهلي المصري والذي تأسس في عام 1855م، وقال لنا شنقراي ان سواكن قصد الانجليز تدميرها بعد ان كسر الأمير عثمان دقنه المربع الانجليزي في سابقة كانت هي الاولى لقائد عسكري فعملوا على محاربتها بدءاً بنقل الميناء الى مدينة بورتسودان حيث تم تأسيس ميناء بورتسودان في عام 1905م مما جعل الكثير من المواطنين يرحلون من سواكن الى بورتسودان, حيث توفر فرص العمل في الميناء ، ولكن جميع المنازل الأثرية الآن تعتبر ملكا حراً ولها أصحابها وكذلك الأرض التي عليها مبنى البنك الاهلي المصري أهلها موجودون ويحافظون على تاريخهم وإرثهم بل ان بعض أهل هذه المدينة «أسرة»مازالوا موجودين في الجزيرة رغم عدم وجود سكان فيها.
الأتراك وإعادة الترميم
لم تجد مدينة سواكن «التاريخية» الاهتمام الكبير عدا في الفترة الأخيرة حيث بدأت حكومة البحر الأحمر في إعادة ترميم المدينة عبر شركة تركية متخصصة في هذا النوع من المباني رغم وجود بعض المعوقات خاصة في الحجر المستخدم في البناء , بيد ان هذه الشركة نجحت في تجاوز هذه العقبات حيث انتهت الآن من ترميم مبنى الجمارك والمسجدين الحنفي والشافعي ورصفت شوارع الجزيرة بالانترلوك الذي جيء به خصيصا من تركيا لمقاومته للرطوبة العالية , وستعمل الشركة التركية على ترميم كل المباني الحكومية بنفس الطريقة التي بنيت بها في ذاك العصر.
طوب الشعب المرجانية
حسب ما علمنا من حافظي تاريخ المدينة ان الأمير عثمان دقنة كانت مبانيه خارج الجزيرة وهي خلف المدرسة الأميرية الآن في المدينة, ولكنه كان موجوداً بتجارته وأعماله في الجزيرة التي استخدم في بنائها الحجر البحري الذي يقاوم الرطوبة وهو عبارة عن شعب مرجانية تقطع على أشكال طوب وله عدة أشكال، وعلى الرغم من الحطام الذي أصبحت عليه الجزيرة بيد ان الآلالف من الزوار يأتون لزيارتها من كل العالم, وبعضهم يبكي على التاريخ التليد المدفون تحت الركام، إلا ان الامل عاد الآن لعودة المدينة التاريخية الى ذات شكلها القديم وبمباني شامخة تحفظ تاريخها القديم وستعود أحياء الجزيرة الأربعة وسيوضع المدفع القديم الذي كان يحرس به المدينة والمشاعل وكل ما كان في المدينة سيعود ليجذب الملايين من السياح إلى سواكن مدينة سجن الجان كما تقول الرواية .
هدية نادرة لحفيد العثمانيين
بدت علامات السعادة وبعض من الدهشة على وجه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وهو يضع أقدامه على جزيرة سواكن التي قامت في سابق الأزمان على طراز الدولة العثمانية, ليكون اردوغان هو أول عثماني في العصر الحديث يزور الجزيرة التي كان يقطنها ويحكمها أجداده ، ووقف الرئيسان المشير عمر البشير ونظيره التركي رجب طيب أردوغان على المعالم التاريخية والأثرية لمدينة سواكن التي تعتبر رمزاً حياً للتراث العثماني، الذي بدأت إعادتها ليحقق شعار:
« سواكن سنعيدها سيرتها الأولى « ، والي البحر الأحمر علي أحمد حامد، اكد على أزلية العلاقات بين البلدين، ورحب بالرئيس التركي.
وقال حامد إن سواكن تعتبر هي الأقدم على ساحل البحر الأحمر, وهي معبر افريقيا للعالم وأسست الجزيرة عند الخلافة العثمانية وعادت إليها الحياة بعد افتتاح البشير لميناء سواكن في العام 1990 وانتقل إليها صادر المواشي فعادت إليها الحياة مرة اخرى. وفي العام 2010 بدأت منظمة تيكا في إعادة تأهيل المدينة القديمة، وتحدث حامد عن جزيرة سنقنيب التي انشأ فيها الحاكم العثماني مناراً للإرشاد البحري والذي أنقذ الملاحة البحرية في البحرالأحمر ..وقال اليوم نقف هنا لنعيد الماضي ونربطه بالحاضر للتعاون الاستراتيجي ..ونحن نسعى لنستفيد من التجربة التركية وهي تسير بخطى ثابتة لتتقدم وتحتل موقعا متقدما.
وقدمت حكومة الولاية هدايا رمزية للرئيس أردوغان من بينها عملة تركية نادرة عمرها حوالى 250 عاماً.
الانتباهه.