مِهن ومِحن (19)
من باب التذكير لمن فاتهم الاستماع – كما يقول المذيعون في المحطات الإذاعية- فإن هذه السلسة من المقالات ترمي إلى إثبات أن كل مهنة في طيِّها محنة لمن يزاولها أو من يطلب خدمة ممن يزاولها، وقد توقفت طويلا عند الأطباء، وكيف أنهم يشوفون الويل وسواد الليل خلال مزاولة مهنتهم وكيف أن بعضهم يذيق المرضى الويل وسهر الليل عن غير قصد أو بسبب «الكلفتة»، ورأيت أن أخصص حيزا وخاصة لأطباء الأسنان، وقد كتبت كثيرا في مقالاتي عن تدهور العلاقات بيني وبينهم لأنه ولسبب «نفساني» لا أفهمه يرعبني طبيب الأسنان بنفس القدر الذي ترعبني به صورة فاروق الفيشاوي، بل إنني ولحين من الدهر وضعت أطباء الأسنان في نفس مرتبة مدرسي الرياضيات الذين نفرت منهم في سن غضة لأنهم حاولوا تعليمي التعامل مع الأرقام وهو أمر أثقل على قلبي من الجلوس في غرفة واحدة مع فشار الأسد وروبرت موغابي لمشاهدة فيلم فيه نادية الجندي والفيشاوي وأمامنا طبق من القرنيط والكوسا المسلوقة.
ولكنني لست ممن يستكثرون على أطباء الأسنان (في القطاع الخاص) المال الذي يكسبونه، رغم أن كثيرين منا يقومون من كرسي الأسنان الكريه ويكتشفون أنهم مطالبون بدفع نصف أو ربع رواتبهم الشهرية نظير جلسة كلها أنين ودم وبصاق و«ووواع ووووع.. آآآآي»، يا جماعة طبيب الأسنان يمنح من وقته على الأقل نصف ساعة للمريض الذي لا تكون حالة أسنانه مستعصية، أما إذا كان ذلك الطبيب ذا نية إجرامية وقرر «القتل»، فالأمر يستغرق وعلى أقل تقدير خمس ساعات موزعة على ثلاثة أو أربعة أيام، فقتل العصب مهمة عسيرة على الطرفين، وطبيب الأسنان وبعكس الطبيب الذي يعالج علل الجسم الأخرى، قليل الكلام وكثير الفعال، وينطبق عليه بالتالي المثل السوداني «السواي مو حدّاث» أي أن من يريد ان يسوي الشيء (يقوم بعمل ما) لا يكون حداثا أي كثير الحديث/ الكلام، وبما أنني من النوع الذي إذا انحنى لثلاث دقائق متصلة احتاج للمورفين والهيروين والكوكايين وثاني أوكسيد البنزين لإسكات آلام الظهر والرقبة، فإنني أرأف لحال طبيب الأسنان الذي تتطلب مهنته الجلوس والانحناء لساعات طويلة لا يقدر عليها حتى لاعب أكروبات (كانت عندنا في السودان فرقة أكروبات بهرت العالم في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وجاءت الفرقة إلى أبوظبي، وحضرت عرضا لها ومعي ولدي الصغير، الذي انبهر بالعرض وصار يتحدث في كل مكان عن روعة فرقة «المكروبات السودانية»).
ورغم – وربما بسبب – خوفي من أطباء الأسنان، فإنني حريص على معالجة أسناني أولا بأول لتفادي «الخلع» وتعريض جزء من جسمي (العصب) للقتل، ورغم أنه لم يحدث قط أن جلست في كرسي أسنان إلا بعد نحو ساعة أو أكثر من الموعد الذي حدده لي الطبيب، إلا أنني أتفهم عدم دقة مواعيد الأسنان لأن مريضا واحدا أسنانه مضروبة بالجملة قد يسرق وقت مريضين.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]