عام رئاسة ترامب .. هل يتعايش العالم مع الكابوس؟
بالنظر إلى عدد السوابق التاريخية والانقلابات السياسية التي شهدتها الولايات المتحدة والعالم خلال السنة الأولى من ولاية دونالد ترامب الرئاسية، يصبح إجراء جردة للتغييرات الكبيرة التي أحدثتها سياساته، مهمّة في غاية الصعوبة، وإن كان من السهل رصد حجم الفوضى العارمة التي خلفتها داخل أميركا وخارجها. وقد أطلقت ألقاب كثيرة على ترامب خلال سنته الرئاسية الأولى، لعل أبرزها لقب الرئيس العنصري، وإن كانت تهمة العنصرية ليست جديدة عليه، بل التصقت به منذ الحملة التي أطلقها عام 2012 للتشكيك بشهادة ميلاد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. وتصدّرت شعارات التنديد بعنصرية ترامب، التظاهرات الاحتجاجية التي انطلقت في واشنطن ومختلف المدن الأميركية بعد لحظات من الحفل الرسمي لتنصيبه رئيساً للولايات المتحدة في 20 كانون الثاني/ يناير عام 2017.
ومع أنّ المرشح الجمهوري كان قد اتهم سابقاً بالعنصرية خلال حملته الانتخابية، إلا أن الرئيس الأميركي احتفظ بهذا اللقب عن جدارة، طوال العام الماضي، وجاءت تعليقاته عن المهاجرين إلى أميركا من بلدان “حفرة القذارة من هاييتي وأفريقيا”، والتي أشعلت أزمة عنصرية دولية، لتتوّج سنته الأولى في البيت الأبيض.
ورغم نفي ترامب في تصريحاته المعلنة تهمة العنصرية وتكراره القول بين الحين والآخر إنه “أقل الناس عنصرية”، إلا أنّ التهمة تحوم حوله وحول الكثير من مواقفه وقراراته وأجندته السياسية منذ وصوله إلى البيت الأبيض. هذا إذا لم نقل إنّ زلّات لسانه المقصودة أحياناً تشير إلى أنه يفضّل إلصاق هذه التهمة به، ربما لأنه يعتقد بأن مسالة العنصرية محلّ جدل وإثارة في وسائل الإعلام والرأي العام، والأرجح أن ذلك يعزز شعبيته بين الأميركيين البيض ووسط قاعدته الشعبية ذات التوجه اليميني المحافظ المعادي للمهاجرين والأقليات.
وقد كانت لعنصرية ترامب، أو على الأقلّ كما يرى خصومه، محطّات بارزة، بدأت في الأيام الأولى من ولايته بإصداره قراراً تنفيذياً بحظر دخول رعايا عدد من الدول الإسلامية إلى الولايات المتحدة، بحجة “حماية الأمن القومي الأميركي”، واختتمها بموقفه المعادي للمهاجرين إلى بلاده من أميركا اللاتينية وأفريقيا، وتشجيعه استقبال مهاجرين من أوروبا. بكلام آخر، ترامب يفضّل المهاجرين البيض “المتحضّرين”، على المهاجرين الملونين الفقراء القادمين من “البلدان القذرة في أفريقيا”. كذلك، فإنّ موقف ترامب الملتبس من المواجهات العنصرية التي شهدتها مدينة تشارلوتسفيل في ولاية فرجينيا الصيف الماضي، بين مجموعات من النازيين الجدد والـ”كو كلوكس كلان” والعنصريين الأميركيين البيض من جهة، ومتظاهرين من المدافعين عن الأقليات ومناهضي التمييز العنصري من جهة أخرى، أثار ردود فعل واسعة في الكونغرس ووسائل الإعلام، ما أجبره على التراجع تكتيكياً عن موقفه الرافض لتحميل مجموعات اليمين المتطرّف مسؤولية المواجهات، ومقتل ناشطة يسارية عندما نفّذ أحد النازيين الجدد عملية دهس بحق المتظاهرين، على غرار العمليات الإرهابية التي نفّذتها ذئاب منفردة في أوروبا وأميركا، أعلنت مبايعتها لتنظيم “داعش”.
لعنة مولر
لعلّ التحقيقات في التدخّل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016 وتعيين روبرت مولر محققاً خاصاً للاستقصاء عن اتهامات الاختراق الروسي للحملة الانتخابية لترامب، من أبرز الكوابيس التي رافقت إدارة ترامب طوال السنة الماضية، ومن المنتظر أن تكون تطوراتها في طليعة التحديات التي ستواجهها هذه الإدارة في عامها الثاني في البيت الأبيض، خصوصاً أن التحقيقات اقتربت أخيراً من الرئيس والمقربين منه. وما زال محامو ترامب يدرسون طلباً تقدّم به مولر لإجراء مقابلة مع الرئيس، في حين ينتظر المراقبون أن تسفر جلسات تحقيق مولر مع ستيف بانون، المستشار الاستراتيجي السابق في البيت الأبيض، عن معطيات مهمة حول تفاصيل إقالة ترامب لمدير مكتب التحقيقات الفيدرالي “أف بي آي” جيمس كومي التي قد تشكّل أساساً لتوجيه الاتهام للرئيس بعرقلة عمل العدالة ومحاولة الضغط على مكتب التحقيقات الفيدرالي لوقف تحقيقاته بالتدخل الروسي في الانتخابات.
انقلابات الداخل والخارج
ترافقت المراوحة في السجال السياسي الداخلي حول شرعية انتخاب ترامب، أو عدم شرعية هذا الانتخاب، ومراهنة خصوم الرئيس على أن التحقيقات في التدخل الروسي في الانتخابات ستؤدي عاجلاً أم آجلاً، إلى محاكمته وعزله، مع تحولات وانقلابات وعواصف سياسية في الداخل والخارج، لم تعهد الولايات المتحدة مثيلاً لها منذ عقود. فاستنفار المشاعر العنصرية، التي قام عليها خطاب ترامب الانتخابي من أجل استعادة الهوية القومية الأميركية التقليدية بعد الحقبة “الأوبامية”، عرّى السياسة الأميركية من ثوبها الأنيق، وأظهر الانقسامات العنصرية والطبقية في المجتمع الأميركي على حقيقتها، وانعكس ذلك تشكيكاً في مجمل التجربة الديمقراطية الأميركية وأنظمتها السياسية والانتخابية.
وفي الخارج، كسرت إدارة ترامب تقاليد السياسات الأميركية، وأعلنت عن استراتيجيات جديدة تجاه القضايا الساخنة في العالم، من كوريا الشمالية، إلى إيران وسورية والخليج والشرق الأوسط. استراتيجيات تقول إدارة ترامب إنها تسعى من خلالها لاستعادة المبادرة الأميركية في السياسة الدولية وطي مرحلة الصبر الاستراتيجي التي اعتمدتها الإدارات الأميركية السابقة تجاه أعداء الولايات المتحدة على الساحة الدولية. لكن في حقيقة الأمر، فإن سياسات عام من حكم ترامب ألحقت أضراراً بالغة بالسياسة الخارجية الأميركية، من شبه الجزيرة الكورية التي تخيّم عليها أجواء الحرب النووية، إلى موقفه الملتبس من الحصار المفروض على دولة قطر والذي أسفر عن انقسامات بين حلفاء الولايات المتحدة في الخليج العربي. هذا بالإضافة إلى سياسته الإسرائيلية التي أطاحت بالدور الأميركي في عملية السلام الموعودة في الشرق الأوسط، من خلال قراره الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، والذي أثار موجة واسعة من الاحتجاجات الدولية. وقد صوّتت غالبية أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد القرار الأميركي الأحادي. وعن قصد أو عن غير قصد، أعدم قرار ترامب أي احتمال لقيام سلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، خصوصاً في ظلّ إعلان الانحياز الأميركي الكامل والصريح لإسرائيل والتخلّي عن دور الوسيط النزيه في أي عملية سلام محتملة.
ولا يمكن التنبؤ بنتائج انقلابات ترامب الاستراتيجية قبل تبلور المعالم النهائية للعلاقات الأميركية الروسية والأميركية الصينية. ولا يرتبط ذلك فقط بموازين القوى الدولية وخريطة المصالح، بل هو مرهون بالدرجة الأولى بما ستؤول إليه التحقيقات الروسية، وبالتالي مستقبل رئاسة ترامب المهددة بسيف هذه التحقيقات، وما إذا كان الرجل سيتمكّن من البقاء في البيت الأبيض إلى حين انتهاء ولايته الرئاسية في العام 2020.
ستالين أميركا
من الألقاب التي اكتسبها ترامب في أواخر سنته الأولى، صفة الديكتاتور، بسبب حربه المفتوحة مع وسائل الإعلام والعداء المستحكم بينه وبين الصحافيين. وقد شبهه السيناتور الجمهوري جف فليك بالزعيم السوفييتي السابق جوزف ستالين المعروف بقمعه لجميع الآراء المخالفة له داخل الحزب الشيوعي السوفييتي. وقد وضعت وسائل الإعلام الأميركية، منذ الأيام الأولى لترامب في البيت الأبيض، سيناريوهات وهمية وواقعية تعبّر عن رغبتها في محاكمة ترامب وعزله بأسرع وقت ممكن. ويراهن خصوم الرئيس على تطورات قريبة في ملف التحقيقات الروسية، إثر توجيه الاتهامات إلى مدير حملته الانتخابية، بول مانفورت، وشريكه ريكس غايتس، واعتراف مستشار السياسة الخارجية في الحملة، جورج بابادوبولس، بالاجتماع مع شخصيات روسية، والعمل على ترتيب لقاء بين المرشّح الجمهوري للرئاسة الأميركية والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
إقالات واستقالات
لم تشهد الحياة السياسية في الولايات المتحدة في تاريخها الحديث، ظاهرة مشابهة لما شهده البيت الأبيض خلال الأشهر الماضية من رئاسة ترامب، من إقالات واستقالات وصراعات على النفوذ وحبك للمؤامرات وتسريب لأسرار الدولة. وفي نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2017، ذكر تقرير صادر عن معهد بروكنجز (مؤسسة فكرية مقرها واشنطن)، أن إدارة ترامب شهدت خلال عامها الأول نسبة استقالات وانسحابات أعلى من أي حكومة جاءت للبيت الأبيض. وأوضح التقرير أن 34 في المائة من كبار المسؤولين استقالوا من مناصبهم في إدارة ترامب منذ تأسيسها قبل نحو عام.
وبالإضافة لكثرة الاستقالات والإقالات، وجد ترامب صعوبة في تشكيل حكومته وانتظار موافقة الكونغرس على تعيين بعض الوزراء، فخضع لاختبار جاد في الأشهر الأولى عندما اضطر للانتظار طويلاً لنيل موافقة الكونغرس على تعيين بعض أعضاء إدارته. وزادت النقاشات المطروحة لدى الرأي العام حول أحقّية بعض المرشحين لنيل الحقائب الوزارية، من صعوبة تلك المرحلة.
وفي حين افتتح خصوم ترامب في الإدارة، سلسلة الاستقالات منذ الأيام الأولى لتوليه مقاليد الحكم، أطلقت الإقالة المبكرة لمستشار الأمن القومي، الجنرال مايكل فلين، بسبب كذبه حول اجتماعات عقدها مع الروس، معركة تصفية حسابات على خلفية التحقيقات الروسية. وكانت إقالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، جيمس كومي، مدوية، إذ إن توقيتها جاء قبل ساعات من استقبال ترامب لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في المكتب البيضاوي. وبحسب المستشار الاستراتيجي السابق للرئيس، ستيف بانون، فإن إقالة ترامب لمدير الـ”أف بي آي” هي الخطأ المميت الذي ارتكبه الرئيس، وأسفر عنه تشكيل لجنة خاصة للتحقيق في التدخل الروسي وتعيين روبرت مولر، صديق كومي، محققاً خاصاً في التدخل الروسي.
وإذا صحّ ما نقله مايكل وولف عن بانون في كتاب “نار وغضب داخل بيت ترامب الأبيض”، الذي أثار حرباً بين الرئيس ومستشاره الاستراتيجي السابق، بأن ترامب فوجئ بنتائج انتخابات 2016 وفوزه غير المتوقّع على هيلاري كلينتون، مرشّحة الحزب الديمقراطي، فإن الأكيد أن ترامب لم يكن يتوقّع أن يكمل سنته الرئاسية الأولى. فيما يرى وولف أن كتابه سيكون بمثابة الضربة القاضية لرئاسة ترامب.
ورغم تعوّد الرأي العام الأميركي على تغريدات ترامب وانقلاباته وزلات لسانه، إلّا أنه لم يكن يتوقّع أن يأتي يوم يسمع فيه رئيس الولايات المتحدة يحاول إقناع الجمهور بأنه لا يعاني من اضطرابات عقلية، وأنّه مؤهّل ذهنياً لإدارة أقوى دولة في العالم. وقد أجمعت وجهات نظر الأميركيين على أنّ لذلك دلالته المشينة والتي تبعث على القلق من الحالة المزرية التي وصلت إليها السياسة في أميركا.
عدم تعيين سفراء
ملف آخر تلقّى فيه ترامب الكثير من الانتقادات في عامه الأول، هو عدم القدرة على تعيين السفراء في عدد من عواصم الدول الكبيرة والحليفة حتى الآن. وتعتبر إقالة ترامب للكثير من الدبلوماسيين المعيّنين، من أسباب هذه الأزمة، بحسب مراقبين للشأن الأميركي. وإلى اليوم لا تمتلك الولايات المتحدة سفراء لها في عدد من الدول المهمة في سياستها الخارجية، مثل الأرجنتين، أستراليا، النمسا، بلجيكا، مصر، الأردن، قطر، السعودية، كوريا الجنوبية، جنوب أفريقيا، الصومال، السودان، السويد وتركيا.
العربي الجديد