قاموس متفرِّد ومليء بالأمثال.. الصادق المهدي.. زراعة الأزهار في فولاذ السياسة
يتفق الصحافيون بأن الحوار مع رئيس حزب الأمة القومي، الإمام الصادق المهدي، أحد أكثر المحطات المريحة التي خبروها ـــ وسيخبرونهاـــ في سنوات مهنة البحث عن المتاعب، وقيل عقب بحوث مهنة المتاعب فقط لا غير.
فالإمام ــ نتفق أو نختلف ــ نسيج وحده. فهو مفكر مجيد، وسياسي محنك، وهو كذلك متصوف بفهم تجديدي حداثي، كما وهو علامة في الثقافة والموروث السوداني. وباختصار يمكنك أن تناقش الإمام في أمور لا حصر لها، وبلغات شتى، ثم تنتهي في كل مرة لذات النتيجة، أن تحترمه.
ومع لغته الفخيمة، فإن المهدي عادة ما يتحدث بعبارات بسيطة ومفهومة للخاصة والعوام، بل مع قدرة عجيبة على مزج لغة العامة والخاصة ويظهر ذلك عياناً في استخدامه لكثير من الأمثولات الشعبية التي جعلت خطاباته ذات وقع وجرس مختلفين.
ويمكن لمن يحتطب ليلاً في صحافة الخرطوم، أن يعثر ضمن ما يعثر عليه بعضا ًمن عبارات الإمام التي تزين صدر الصحف، إن لم يكن تزهو في خطوطها الرئيسة (المانشيت).
أمثلة
آخر تصريحات للإمام الصادق المهدي، اعتلت رأس الصفحة الأولى بالزميلة (الأهرام اليوم) قولته (النظام سالخ جلدو). وهي مقولة أتت في سياق التحولات الكبيرة إن لم تكن الدراماتيكية والتي حدثت لنظام الإنقاذ منذ وصوله في العام 1989. يقول الإمام في رده على الصحيفة إن الحاجة إلى مواجهة المعارضة أملت هذه التحولات.
من العبارات العالقة في الذهن، ما قاله المهدي في ذم مزايدة المؤتمر الشعبي عليه بشأن علاقته بالحكومة فقال (الشعبي ساقط وشايل قلمه يصحح)، في إشارة إلى مشاركة حزب الراحل د. حسن الترابي في العشرية الأولى للإنقاذ بكل تركتها وحمولاتها.
ولمّا التحق مبارك الفاضل بحكومة الوفاق الوطني، توقع المهدي في زمانات كثرة الزعازع وقلة الأوتاد أن يكون مبارك لعنة على الحكومة فقال (مبارك سيحدث زوابع في حكومة الوفاق). وبعيداً عن التنجيم فقد أثار مبارك ثائرة الحكومة حين دعا للتطبيع مع إسرائيل، وأثار حفيظة الناس حين قال إنه لا تراجع عن الميزانية ولو بمقدار سطر.
أما عبارة المهدي في أعقاب اتفاق جيبوتي وبُعيد عودته للسودان في (تفلحون) فقد حفرت على الصخر لدى أطراف كثيرة لكلٍ منهم ليلاه. الحكومة اتخذتها لتبيان جديتها في التعاطي مع المعارضين، والمعارضون يرونه منهاج التهافت على السلطة، أما لدى المهدي فالعبارة فستكون تدليلاً على عدم وفاء الحكومة بالمواثيق والعهود، أما العبارة فلم تكن سوى (ذهبت لجيبوتي لاصطاد أرنباً ولكن اصطدت فيلاً).
حلقة ذكر
يمكن لمحبي التراث واللغة أن يغرفوا أو يغرقوا في أحاديث وخطب المهدي، كما يفعل الصوفي حين ينجذب في حلقة ذكر. فكل حوار مع المهدي يحوي من التشبيهات والمقاربات والأمثولات الشعبية والاستدلالات بالقرآن والسنة النبوية وأشعار العرب، ولا يحتشد ذلك في قاموس رجل كما هو الحال مع الإمام.
ولذا اكتفينا بما قلناه على سبيل المثال أما لو أردنا الإحاطة والحصر، فعلينا أن نعين وحدة جامعية تعكف على ذلك في برنامج لرسالة الماجستير أو الدكتوراه أو حتى الأستاذية.
ولكن لنعرف من أين أتى المهدي بكل ذلك القاموس النضاح بالمعاني التي تزهر في فولاذ السياسة القاسي. سؤال توجهنا به في (الصيحة) لنائب الأمين العام لهيئة شؤون الأنصار، الشيخ آدم أحمد يوسف، فقال إن الإمام الصادق المهدي، رجل كثير الاطلاع، مهتم بالتنوع والتراث السوداني، ويكثر من استخدام الأمثال الشعبية لتقريب الفهوم، فالله عز وجل قد ضرب الأمثال في كتابه الكريم فقال {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
يذكر الشيخ آدم أنه كثيراً ما رأى المهدي يتحدث إلى الوفود التي تزوره أو يزورهم بلغتهم ولهجاتهم، وفي ذلك إظهار لسمت التواضع الموفور لدى الإمام، كما وفيه كسر للحواجز، واستمالة للأفئدة، حيث إن اللغة المتعالية كثيراً ما تنفّر العلماء والعوام على حدٍ سواء.
ومن جهة ثالثة، ينوه الشيخ آدم، إلى أن الجينات قد تكون لعبت دوراً مهماً في اتجاه المهدي لضرب الأمثال، حيث إن جده الإمام محمد أحمد المهدي، اشتهر في منشوراته وخطبه بنثر الأمثال التي لها منها على سبيل المثال قوله الشهير (الفشّ غبينتو.. خرّب مدينتو).
أما أكثر الأمثال التي قال بها المهدي، وما يزال يوسف يذكرها، لما فيها من ملمح طرافة، فقوله في توصيف الجبهة الإسلامية القومية بأنها (عميانة كحلتها مجنونة.. وقالت ليها حواجبك سود ومقرونة).
وسيلة ردع
إذاً كيف ينظر علم الاجتماع للقواميس الشعبية في خطابات وخطب الإمام الصادق المهدي. يقول أستاذ الاجتماع أيمن عماد الدين، إن غالبية قاموس المهدي الزاخر بالأمثال ووجه تلقاء تقريب الفهوم، ولكن في أحايين أخرى يكون لردع الخصوم، وسلقهم بألسنة حداد، تجعل الآخرين من دونهم يفكرون ألف مرة قبيل مهاجمته، وتلك وسيلة دفاعية مهم أن تكون ضمن بضاعة الساسة.
مضيفاً في حديثه لـ (الصيحة) أن قاموس المهدي قد يكون موجهاً لمن يتردد في اتخاذ موقف، فحين يأتيك الإمام ليقول لك إن الحكومة المقبلة ومن وقائع ما يجري كمن (مشطوها بقملها) فذلك كفيل بأن تعيد النظر في التحاقك بها كرة وكرتين.
ونختم بأنه لو كان المهدي السياسي محل اختلاف بين الناس، فإن أحاديثه وحواراته لا خلاف عليها – وكذلك- لا غبار عليها.
الخرطوم: مقداد خالد
صحيفة الصيحة