من خلف نافذة القطار
حل البرد أزاره الطويل على نهار الجمعة، ليلتهم كل ما كان دافئا في محطة بحري، كنت قد أنهيت للتو، أنا الموصوف بالمعد وأحيانا منتج البرامج، كنت أنهيت مسيرة عامين من العمل خلف الكواليس، فليس ثمة ما هو غير منصف من أن تمنح عصارة يومك لمذيع ة كل ما فعلته انها خرجت لامعة بتدرج من غرفة المكياج، وسطت على إسمك تماما في الشاشة، على نحو “الخيل تجقلب والشكر ..” بمرور الأيام يصبح كل شيء مملا، قررت العودة لواجهة الصحف، كانت الساعة تقترب من الرابعة عصرا، موعد انطلاق قطار الجزيرة بلونه الزرعي، جلست في حجرة بلا ضوضاء، وكانت هنالك فتاة تبدو بملامح ليست غريبة، شعرت نحوها بإلفة، عرفتها قبل سنوات في المعيلق الثانوية وعلى وجها ابتسامة زيتية داكنة، وطلعة أنثوية رقيقة، رمقتني وأشاحت بذكرياتها، أذكر أنني أنهيت معها حزمة رسائل المراهقة، رمقتني بنظرة ثانية وأخفت خصلتها تحت وشاح أحمر مطرز، على يدها رسوم حناء وكان ذلك سببا كافيا لأن أبتعد عنها .
انطلق القطار في موعده المضروب، ورأيت خلف النافذة بعض مباني مملكة أسامة داؤود الشاهقة، تذكرت عمر عشاري في ليالي المنتدى الثقافي، وتخيلته داخل الزنزانة بلا جاكيت وقد أرهقه التفكير دون أن تذبل وسامته، ورأيت يوسف الكودة يؤم المساجين والعساكر للصلاة ويقرأ ما تيسر، لا أحد سينتبه لماذا اختار الكودة هذه السورة تحديدا، كما أنه لا أحد سيتضامن معه من الرفاق، يكفي أن يخفي لحيته ليحظى بتضامن منظمات حقوق الانسان، سيقولون ان للكودة غبينة خاصة مع النظام عجلت بخروجه في خضم مسيرة الجوع والغلاء، فهل هو مثل بائع البيض حنا يعقوب في رواية “دروز بلغراد”،، والذي وضعه قدره في ساعة نحس على أرصفة المرفأ ؟
(دور حديدو) وتحركت الحجرات تباعا، لاح لنا القصر الجمهوري، ذلك العرين الرحب للسلطة على ما وصفه ماركيز، لم يكن قصرا يملك وصفة للحصول على الخبز والسكر والحليب بسعر متاح للفقراء، كانت أعباء جديدة على ميزانية الركابي من خلال المجالس الرئاسية المقررة، عبرنا جسر الحرية، علق أحدهم قميصه على الجسر، أظنه عامل حكومي لم يفهم المفارقة العميقة لجسر يطل على السجانة . رمقتني الفتاة بنظرة أخرى وأعادتني لأعوام الدراسة الثانوية، تذكرت بحزن صديقي سامي إبراهيم فيندر أن لا أتذكره، رأيتني من فوق الدراجة الهوائية أخيط الشوارع، مرورا بقبر زليخة التي نبتت فوقها شجرة لبخ، وليس انتهاءا بالسوق والمستشفى وطابور الصباح وبعض رسومات عمي النور حمد على جدران مدرسة المعيلق، كان ذلك قبل أن يتعرف على نصفه الأخر (أسماء بنت الأستاذ)
فوق مدخل حجرة القطار تنتصب شاشة بلازا أنيقة، يغني منها النصري بصوته العجيب” طول وفجأة بان ذكرني أيامنا الزمان يا حليلو ..” قلت للمضيفة وهى تصب من ابريق الشاي كوب ساخن : “بالله شوفي كمية الحنية في يا حليلو دي؟” ابتسمت بحفاوة وانقطع حوار قصير بيننا، قلت لها كم تستغرق المسافة إلى محطة المعيلق؟ قالت حوالي ساعتين فنحن نسير بسرعة أقل أملا في سلامة من هم بالخارج، وفجأة بزغت على محياها البشارة وهى تزف لي بأن خدمة الواي فاي قريبا على قطار الجزيرة. قلت يارب كيف كيف يكون الحال في الخريف؟ طريت المعزولين بين قنطرتين، الواحلين وفي المنتصف، المعلقين على الخط، العابرون في زمن عابر، تذكرت شارع الموت، والأرواح العزيزة التي صعدت منه إلى السماء، تذكرت الأمهات المفجوعات، لأجلهن، لحياة أقل فداحة، لأجل الأنسان المحزون، رهق المسير،لأجل مرضى السرطان، والزرع المهدد، لأجل أن تتماسك هذه البلاد من أطرافها، فلتتسع شبكة القطارات، إلى الجنينة وحلايب ودنقلا وودالحليو والجنوب الذي أخذ بعضنا ورحل جنوبا، تذكرت كل شيء وأكثر ما كان أسعفني من الخيال تشيخوف .
عزمي عبد الرازق