الطيب مصطفى

بين الحلو وعرمان والمفاوضات


لولا أن التفاوُض مع الحركة الشعبية في ثوبها الجديد قد بدأ بالأمس في أديس أبابا بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات على المشهد السياسي الداخلي، لقلت إن أي كتابة في هذه الأيام تتجاوز الحديث عن الأوضاع الاقتصادية الكارثية التي تمر بها البلاد تعتبر مجرد (عرضة برّ الداره)، ولكن دعونا نسأل: هل عانى السودان طوال تاريخه الحديث بشيء مثلما عانى من الحرب اللعينة التي اشتعلت وتعالى لهيبها قبل أن يتنسّم السودان وشعبه عبير الاستقلال المنقوص الذي ما تحقّق إلا مصحوباً بمشكلة الجنوب الذي زرعه الاستعمار في خاصرته حتى تظل تنزف حتى تُرديه؟

أقول هذا كمدخل تبريري للانتقال من أزمة الدولار المتصاعِد والغلاء المتزايِد إلى ما يُضمره الطرف الآخر المفاوِض، فقد منَّ الله تعالى على السودان، رحمة بشعبه الصابِر المحتسِب، بتطوّرات إيجابية أقصت عدوَّه اللدود لتأتي بالحلو رئيساً للحركة الشعبية ليقود التفاوض وذلك يقتضي البحث عن مرجعيات الحلو حتى نفهم منطلقاته وأهدافه.

لم أجد أفضل من ورقة غاضبة أعدّها عرمان ليشرح فيها حقيقة الخلاف بينه وبين الحلو مع مقدمة أخرى مني تشرح طبيعة الانقلاب الذي قام به الحلو وأقصى به القيادة القديمة للحركة والمكوَّنة من رئيسها وأمينها العام عقار وعرمان.

بدأ الحلو انقلابه بتقديم استقالة في مارس الماضي لمجلس تحرير النوبة وليس لرئيس الحركة باعتبار أن النوبة هم القوة المقاتِلة الحقيقية التي ظلت تتحمّل عبء الحرب وكان خطابه ناضحاً بالعنصرية كاشفاً عن المنطلقات الإثنية التي حاول بها إلهاب مشاعر رفاقه في الحركة من أبناء النوبة، حيث استخدم ذات الخطاب العنصري الذي اشتهر به القس فيليب عباس غبوش واحتشد الخطاب بالتحريض ضد ما سمّاه (المركز العروبي الإقصائي) وغير ذلك من العبارات التي تكشف عن عنصرية مُقيتة تعتمل في نفس الرجل المعبِّر عن شريحة كبيرة من المقاتلين في جيشه الشعبي، واتهم الحلو الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس، اتهم كلاً من عقار وعرمان بالسيطرة على الحركة و(تغييبه من القرارات المصيرية وتجاوزه في ملف المفاوضات مع الحكومة)،

تلا ذلك انعقاد مؤتمر الحركة في أكتوبر الماضي والذي انتخب الحلو رئيساً والعميد عمار أمون أميناً عاماً والفريق جوزيف تكا علي نائباً أول للرئيس، والفريق جقود مكوار نائباً ثانياً، كما أجاز المؤتمر منفيستو ودستور الحركة لعام 2017.

واضح من التشكيل المذكور أن جبال النوبة سيطرت تماماً على مفاصل الحركة بعد أن احتكرت منصبي الرئيس والأمين العام وأن النيل الأزرق هُمّشت تماماً بالرغم من أن عقار لم يعُد يملك شيئاً على الأرض بعد أن سيطر جوزيف تكا على المناطق التي تحتلها الحركة في جنوب النيل الأزرق، وبالتالي حق للحكومة بل وللآلية الأفريقية التي تقود التفاوض بقيادة أمبيكي بل وللمجتمع الدولي بل وحتى للصادق المهدي وتحالُف نداء السودان أن يلفظوا عقار وعرمان بعد أن تجرّدا من أية قوة تبرر لهما التعبير عن الحركة الشعبية (قطاع الشمال).

في ورقته المفصّلة شرح عرمان، والحسرة تأكل قلبه، ما حدث من الحلو مما اعتبره خيانة كبرى للحركة و(لمشروع السودان الجديد القائم على وحدة السودان) بالإضافة إلى استصحاب مطلوبات منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق، وحكى مراراته مع الحلو وكيف أنه اختار (توقيتاً كارثياً) لتفجير وشق الحركة، وقال إن ذلك (الانقلاب) لم يكُن مصادفة، وإنما بترتيب من قوى خارجية لم تكُن راضية عن رفض الحركة الرضوخ للضغوط الدولية وعن طرحها (برنامج السودان الجديد كبرنامج وحيد دون التأرجح بين حق تقرير المصير والانفصال).

مضى عرمان إلى تخوين الحلو بأنه عمِل على تقسيم الحركة بعد أن ظل (على مدى عامين خارج المناطق المحررة رافضاً المساهمة الفعلية في العمل السياسي والعسكري والإمداد).

واصل عرمان شرح خلافه مع الحلو فقال إنه كان (يثير القضايا الإثنية داخل التنظيم مستلِفاً كل أسلحة أعداء الحركة الشعبية ورؤية القوميين الإثنيين)، مضيفاً أن الحلو استعان بالذين (فشلوا في تقسيم الحركة بالأمس).

نواصل غداً إن شاء الله محاولين تلمُّس الخلاف في توجُّهات الرجلين التفاوضية.

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة