الاقتصاد السوداني واستراتيجية مجاراة الواقع الإقليمي والدولي!
المتأمل في مجريات مسيرة السودان طوال العقود الثلاثة الماضية يلاحظ بوضوح ان المسار الاقتصادي قد تأثر للغاية بمؤثرات محلية وأخري اقليمية و ثالثة دولية. ولان حركة الاقتصاد حركة كونية، دائرية لا يمكن لدولة من الدول ان تحتفظ لنفسها بموقف خارج نطاق هذه الحركة والدائرة فان السودان بهذه المثابة وجد نفسه في هذا الخضم الزاخر.
-فالمؤثرات المحلية و التي عاني منها الاقتصاد السوداني معروفة:
أولاً، ميراث الديون المتوارث منذ خروج الاستعمار في العام 1956 ، ديون السودان التي بلغت حوالي 43 مليار دولار ليست نتاجاً لنظام حكم بعينه وانما هي نتاج لسلسلة
أخطاء و ممارسات متوارثة.
ثانياً، المنازعات الأهلية المطولة التي بدأت بتمرد 1955 في جنوب السودان و نزوع الاقليم الجنوبي المستمر للاستقلال استنزفت ثروات هذا البلد، مضافاً اي ذلك نزاع دارفور ومناطق جنوب كردفان و النيل الأزرق. وفي واقع الأمر فان المنازعات الداخلية في السودان هي العامل المؤثر بجدارة علي مسيرة الاقتصاد السوداني، فعوضاً عن المال المستنزف في الحرب فان الحروب أعاقت حركة التنمية و حجبت الاستثمار الاجنبي و أضاعت علي هذا البلد فرصا ذهبية غالية للاستثمار.
أما المؤثرات الاقليمية فهي: أولاً، تدخل دول الجوار في الشأن الداخلي السوداني خاصة في حرب الجنوب وحرب دارفور وشرق السودان. لقد عاني السودان طوال أكثر من 30 عماً من تدخل دول الجوار في شئونه الداخلية بدعم المعارضة المسلحة و تعطيل التنمية لادراكهم ان السودان غني بالموارد الطبيعة واذا ما استقر فانه سوف يصبح مارداً اقتصادياً وسياسياً قوياً.
ثانياً، اعتماد بعض دول الجوار علي السودان في الحصول علي السلع الأساسية عبر التهريب في ظل حدود طويلة مفتوحة يصعب السيطرة عليها و لقد ثبت مؤخراً ان السلع الاساسية السودانية يجري تهريبها الي دول الجوار بكثافة بما يلقي بظلال سالبة علي أسعارها ووفرتها في السودان. أما الاسباب و المؤثرات الدولية ، ففي مقدمتها الازمة الاقتصادية العالمية التي ضربت العالم عام 2008 أزمة «وول ستريت» الشهيرة، وهي ازمة ظلت تداعياتها تؤثر علي مجمل حركة الاقتصاد الدولي وبما ان السودان يستورد سلعاً من الخارج فان من الطبيعي ان يتأثر بها.
ثالثاً، أسعار النفط علي سبيل المثال ان أسعار الوقود حالياً -علي نطاق العالم- ارتفعت، ففي 4 دول خليجية هي الامارات العربية و قطر و عمان والسعودية «يناير 2018 شهدت ارتفاعاً ملحوظاً وأوردت وكالة الأناضول للأنباء مؤخراً ان الزيادة هي الثانية علي التوالي في الامارات وعمان والرابعة في قطر منذ نشوب أزمة الخليج. و تشهد اسعار الوقود في هذه الدول ارتفاعاً متوالياً وهذا الارتفاع بطبيعة الحال يلقي بظلال سالبة علي مجمل حركة المنطقة كسعلة استراتيجية عالمية في كل أنحاء العالم.
فالمملكة العربية السعودية وابتداء من 1/1/2018 زادت أسعار الوقود بنسبة وصلت الي 27%. والدول الخليجية بصفة عامة وبسبب انخفاض أسعار النفط عالمياً عانت من عجز في موازناتها للدرجة التي قرعت فيها دول الخليج ناقوس الخطر ولجأت الي فرض ضريبة القيمة المضافة في محاولة لايجاد حلول سريعة.
ان من المهم أن نستعرض الأهمية القصوي التي تميزت بها هذه الموازنة علي وجه الخصوص دون سواها. أولاً : هي أول موازنة لحكومة الوفاق الوطني التي أفرزها مشروع الحوار الوطني، وهي بهذه الصفة مسنودة برؤي ومخرجات الحوار الوطني في الجانب الاقتصادي ومن ثم فهي موازنة علي الأقل نابعة من نقاش مسبق مستفيض من قبل مكونات سياسية عديدة في السودان.
– وهي موازنة العام قبل الأخير للبرنامج الخماسي المعروف الذي امتد من العـ2015ـام وينظر أن ينتهي في العـ2019ـام، ومن المعروف أن البرنامج الخماسي برنامج قائم علي برنامج اصلاح الدولة، أحد أهم برامج الدولة السودانية الهادفة للنهوض بكافة القطاعات وتطويرها.
– هي أول موازنة تعقب قرار رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية عن السودان في أكتوبر الماضي ومن ثم فان الأهمية التي تكتسبها هنا كونها تظهر التدابير التي من شأنها جعل السودان يستفيد من مزايا رفع العقوبات وتعطي ملمحاً عاماً لكيفية التعامل مع مرحلة ما بعد العقوبات. أما اذا أمعنا النظر في الموازنة نفسها فان المبلغ الاجمالي للموازنة العامة «173,1 مليار» وهو بلا شك – بحسب العديد من الخبراء الاقتصاديين – مبلغ كبير للغاية، ولكن ذات الخبراء يشيرون الي أن ضخامة المبلغ لها مبرراتها، كونها موازنة في ظل حكومة وفاق وطني وعمليات سلام واستتباب أمن الأمر الذي يتطلب معه وجود أموال لتغطية بنود الصرف، ولكن لعل أبرز ما في هذه الموازنة من النواحي الاقتصادية المهمة ذات الطابع الاستراتيجي أنها 1/شددت علي ضبط عقود الشراء والتعاقد والصرف، وهذه النقطة مهمة لأن خفض الانفاق العام والعمل علي التقليل من المصروفات الحكومية العامة، أمر استراتيجي وحيوي لكبح جماح التضخم وتحقيق معدل نمو معقول.
1/ قررت العمل علي خفض التضخم وتقليل حجم الكتلة النقدية والاستدانة من النظام المصرفي، باعتبار أن هذه العلل ظلت وعلي مدي سنوات تعيق نهضة الاقتصاد السوداني.
2/ العمل علي تشجيع الصادر، باعتباره واحداً من أهم وأبرز ما يجلب العملة الصعبة للبلاد، ولعل سعي الحكومة لرفع نسبة حصيلة الصادر الهدف منها توفير النقد الأجنبي في خزانة البنك المركزي، بما يفي بمتطلبات محاربة عمليات المضاربة في الدولارمقابل الجنيه السوداني وتدهور سعر الجنيه السوداني مقابل الدولار.
3/ تحقيق معدل نمو معقول وهو أمر ليس بصعب خاصة اذا علمنا أن المشروعات التنموية في السنوات الأخيرة وانجذاب الاستثمار نظراً لموارد السودان الضخمة أمر من شأنه أن يسهم في تحقيق معدل النمور.
تلك هي باختصار غير مخل أبرز المؤشرات العامة والتحديات التي تجابه هذه الموازنة العامة، ومع وجود توقعات جيدة بامكانية تحقيق سلام دائم في السودان وتوقف العمليات العسكرية في مناطق النزاع علي الاطراف، فان فرص نجاح التدابير التي تستهدفها الموازنة تبدو متصاعدة، صحيح أن غلاء الأسعار في بلد كالسودان زاخر بالموارد ، وصحيح ان عملية كبح جماح التضخم ومحاربة المضاربة في العملات الأجنبية ما تزال تمثل تحدياً ولكن المهم أن الموازنة العامة والقوانين المصاحبة لها، علي أية حال وضعت أساساً لانطلاق النهضة الاقتصادية المرتجاة في السودان في حدود ما هو متاح من امكانات وموارد حالت ظروف معروفة دون الاستفادة منها الاستفادة المطلوبة.
الصحافة.