تحقيقات وتقارير

العلاقات السودانية الأمريكية.. تأثير غرانفيل!!

ربما كانت المصادفة وحدها هي التي جعلت مطالبة الحكومة في الخرطوم للمعونة الأمريكية بدعم الانتخابات، تجيء بعد يومين فقط من صدور حكم الإعدام في حق قتلة موظف المعونة الأمريكية الأشهر جون غرانفيل.
فالبعض كان يتحدث منذ البداية عن احتمال ان تقدم الولايات المتحدة على تسييس قضية اغتيال غرانفيل الذي استقبله العام الماضي كأسوأ ما يكون الاستقبال برصاصات قاصدات أغرقته في دمائه، تماماً كما أغرق بعض المراقبين مستقبل العلاقات بين البلدين على خلفية تلك الحادثة، في بحر من التكهنات التي اتضح عطبها فيما بعد.
فالكثيرون توقعوا، أن ترفع هذه الحادثة من حدة التوتر القائم أصلاً بين واشنطن والخرطوم، وتعيد الى الأذهان، وإلى الطاولة كذلك، الأحاديث عن وجود خلايا إرهابية في السودان طالما ظلت الإدارة الأمريكية ترددها في سياق تضييقها على نظام الإنقاذ.
وقتها، صمت الرسميون في البلدين، وتحدثت عائلة غرانفيل في بوفالو الأمريكية عن تأثير غيابه، حيث قالت إنه كان دبلوماسياً ملتزماً خدم أفريقيا، عاش حياة حافلة بالحب والأمل والسلام، وسيفتقده الناس في مناطق كثيرة حول العالم ممن تأثرت حياتهم وصارت أفضل بسبب العمل الإنساني الذي كان يقوم به، حسب بيان وزعته أسرته لوسائل الإعلام.
وفي الجانب الآخر، رصدت أعين المراقبين لقاءات بين مسؤولين سودانيين وأمريكيين تمحورت حول تداعيات مقتل الدبلوماسي غرانفيل، و من تلك اللقاءات كان ذلك الذي التأم بين وزير الخارجية دينق ألور وبين القائم بالأعمال الأمريكي بالوكالة في الخرطوم روبرتو باولس، حيث تم التأكيد على العمل سوياً بتعاون وثيق للقبض على الجناة.
وتم القبض على الجناة، بعد جهود كبيرة قامت بها الأجهزة المختصة في البلاد، وبمساعدة محققين أمريكان تابعين لمكتب التحقيقات الفيدرالي «اف.بي.آي»، وقال وزير العدل محمد علي المرضي وقت وقوع الحادثة في هذا السياق: نحن نستفيد من خبراتهم ومن فنياتهم العالية، وأضاف، ربما تكون لديهم معلومات غير متوافرة لنا من قبيل تحرك دبلوماسييهم وتقاريرهم التي تصل اليهم في الوزارة أو السفارة أو أي مكان آخر.
ووفقاً لما يشتهي الجانبان مضت التحقيقات، وتم القبض على الجناة، ومحاكمتهم أخيراً يوم الاربعاء الماضي، لكن التساؤل حول تأثير هذه الحادثة على العلاقات السودانية الأمريكية قبل الحكم، وبعده، ما زال يراوح مكانه.
وما يجعل هذا التساؤل ملحاً عن زي قبل، تلك الإشادة النادرة من وزارة الخارجية الأمريكية بهذا الحكم بإعدام أربعة من الجناة، وقالت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية في بيان ذيلته بتوقيعها: «أعتقد أن الأحكام التي صدرت تمثل خطوة مهمة الى الإمام لإحقاق الحق بالنسبة لقتلة جون غرانفيل وعبدالرحمن عباس».
ويرى البعض، أنه من المؤكد أن لقضية غرانفيل تأثيراً إيجابياً، بدت ملامحه تظهر في التصريحات القادمة من واشنطن، التي أعربت عن ارتياحها من صدور الحكم، وهو ما يعني بالضرورة إقراراً بنزاهة القضاء السوداني وتحيزه إلى إحقاق الحق.
لكن أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الزعيم الأزهري بروفيسور إبراهيم ميرغني يرى أن الناظرين الى تأثير إيجابي لهذه القضية على العلاقات بين البلدين، متفائلين جداً، لأن ما بينهما من خلافات أعقد من أن يُطوى بمثل هذه القضايا، فبينهما صراع حول المصالح وصراعات أخرى ذات طبيعة معقدة، إلا أن ميرغني لم يستبعد تماماً في أن تسهم قضية غرانفيل بدرجة ما في فتح المجال لتحسين العلاقات، أما التحسين النهائى، يبقى هدفاً بحاجة الى معالجات أخرى في ملفات ذات طبيعة اقتصادية وأمنية وسياسية وأشياء من هذا القبيل.
وفي السياق، يرى البعض ان الحكومة وكما هي غير مسؤولة عن القتلة، فهي ليست مسؤولة كذلك عن هذه الأحكام التي هي أحكام للقضاء السوداني المستقل. فهي إذن محاكمة جنائية بحتة، في قضية جنائية محضة، دون ان تكون هنالك ظلال سياسية تُرى بالعين المجردة في هذه القضية التي سبقتها قضايا مماثلة في دول الجوار وخاصة مصر.
لكن في مصر، حيث استهدف متشددون إسلاميون الوجود الأجنبي «السواح» في قلب القاهرة، فإن ذلك لم يؤثر على العلاقة مع الغرب، بل على العكس، فإن الطريقة الحاسمة التي ظلت تتعامل بها ربما قربتها منه.
وعلى خلفية ذلك، فإن ثمة إشارة سالبة يمكن إلتقاطها قريباً في هذه القضية، وهي ان بالسودان جماعات متطرفة فلحت إحداها في قتل جون غرانفيل.. لكن المهم التعامل الحكومي الحاسم مع هذا الموضوع، حيث برهنت الحكومة جديتها، وعدم رعايتها للإرهاب للمشككين في توجهها هذا. وإلا لما حكمت عليهم بالإعدام.
وتاريخياً فإن الحكم في مثل هذه القضايا يترك تأثيراً ما على العلاقة بين الدول، ففي حالة السودان، عندما قتلت عناصر من أيلول الأسود الفلسطينية السفير الأمريكي ودبلوماسيين آخرين في الخرطوم، فإن المحاكمة المخففة التي أجراها نظام مايو، وتسليمه فيما بعد للجناة لمنظمة التحرير الفلسطينية التي أطلقت سراحهم كانت لها ظلالاً سالبة جداً على مجمل علاقات مايو مع الغرب وقتذاك.
ومع مرور ما يقارب الاربعين عاماً على مقتل آخر أمريكي في الخرطوم، جاءت قضية غرانفيل لتؤكد قدرة ورغبة القضاء السوداني في حسم التطرف الذي ربما وجد الجميع أنفسهم فجأة أمام مرمى نيرانه.
فتح الرحمن شبارقة :الراي العام