عالمية

اليمين المتطرف بأوروبا.. مكاسب السياسة ومآزق القيم

مرة أخرى تعود ظاهرة صعود قوى اليمين المتطرف إلى خطف الأضواء بعد تصدرها نتائج الانتخابات التشريعية الإيطالية، في ظل تذبذب حركتها السياسية صعودا وهبوطا داخل القارة الأوروبية.

وتصدر تحالف يتزعمه حزب “الرابطة” اليميني المتطرف الانتخابات الإيطالية التي جرت الأحد الماضي، بينما حققت حركة خمس نجوم اختراقا تاريخيا بحصولها على نحو 32% من الأصوات، مما يجعل منها الحزب الأول في البلاد، ومني الحزب الديمقراطي الحاكم (يسار الوسط) بهزيمة كبيرة حين حل ثالثا بعد الشعبويين وائتلاف اليمين.

ولا تكمن أهمية نتائج الانتخابات الإيطالية في دلالاتها وتبعاتها المحلية، بقدر ما تكمن في سياقاتها الأوروبية والغربية عموما التي تتميز بتأرجح ينحو منحى الصعود لقوى اليمين المتطرف في أغلب الدول الأوروبية.

ورغم الدلالات السياسية العميقة للنتائج الانتخابية التي يواصل اليمين المتطرف حصدها في أرجاء القارة الأوروبية، فإنها لا تقتضي بالضرورة وصول هذه التيارات إلى مواقع الحكم والسلطة، بحكم نزوع غالبية الأطراف السياسية المؤثرة في القارة إلى رفض التحالف مع هذه القوى اليمينية التي تجد نفسها غالبا في ظل إكراهات السلطة أمام خيارين، إما بالتصلب عند مواقفها وهو ما يبعدها من التحالفات الحكومية، أو تقديم تنازلات تستلزم بالضرورة تغييرا في الخطاب وتخفيفا في حدة المواقف، وهو ما يؤدي في النهاية لفقدانها جزءا من شعبيتها المولعة بالخطابات والمواقف المتطرفة.

تعود بدايات تشكل ما يوصف باليمين المتطرف في أوروبا إلى نهايات الحرب العالمية الثانية، حيث يرى البعض أن أحزابه تمثل في الواقع الأيديولوجيات الوطنية المنهزمة في الحرب العالمية الثانية مثل النازية والفاشية، أو ما يُعرف في الأدبيات الأوروبية بتيارات الوطنية الاشتراكية المعروفة بمنزعها العنصري واعتمادها الشديد على العرق محددا وأيديولوجية أساسية في التعامل مع الآخرين وتصنيفه.

ولكن المنعطف الأكبر في تاريخ هذه التيارات كان بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول2001، حيث برزت هذه القوى إلى المشهد السياسي مستغلة تصاعد ما يعرف بالإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب وما يرتبط بذلك من مخاوف أمنية لدى الشارع الأوروبي الذي أسلمته أحداث سبتمبر وما أعقبها من تطورات إلى حالة غير مسبوقة من الفزع.

وخلال الفترة الأخيرة حققت نتائج انتخابية وصفت بالتاريخية، مدعومة بنتائج استفتاء البريكست في يونيو/حزيران 2016 في المملكة المتحدة، وفوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، حيث حل حزب الحرية الهولندي بزعامة خيرت فيلدرز في مارس/آذار 2017 ثانيا، وبات أكبر قوة في البرلمان الهولندي خلف الليبراليين بـ20 مقعدا من أصل المقاعد الـ150، مضيفا إلى رصيده خمسة نواب.

وفي فرنسا، تأهلت رئيسة الجبهة الوطنية مارين لوبان للجولة الرئاسية الثانية العام الماضي، مع مضاعفة عدد الأصوات التي حصل عليها والدها مؤسس الحزب جان ماري لوبان قبل 15 عاما.
وكانت الصدمة الأخرى في الانتخابات التشريعية الألمانية في سبتمبر/أيلول الماضي مع اختراق غير مسبوق حققه حزب بديل لألمانيا ودخوله البوندستاغ مع 12.6% من الأصوات، مقابل 4.7% قبل أربع سنوات.

كما أنهى حزب الحرية النمساوي، الأقدم بين حركات الأسرة اليمينية الأوروبية، الموسم الانتخابي مقتربا من سجله القياسي يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول المنصرم مع 26% من الأصوات، ونجح في الوصول إلى الحكم ضمن ائتلاف مع حزب المحافظين النمساوي.

وتلعب الظروف الخاصة لكل بلد دورا في صعود التيارات اليمينية فيه، ورغم اختلاف التجارب في كل بلد، فإن نجاح اليمين المتطرف يرجع بشكل عام إلى تركيزه على قضايا انعدام الأمن والهجرة والإرهاب والتقلبات الاقتصادية، وهي قضايا تدغدغ مشاعر فئات من الرأي العام المتخوف من المستقبل.

ورغم أن وجود هذه التيارات في الساحات الأوروبية يعود إلى عقود خلت، فإن خطابها السياسي وأولوياتها الانتخابية ومجالات اهتمامها وتركيزها قد شهدت تحولات كبيرة مع التطورات السياسية والاجتماعية المتواصلة.

فبينما ركز في بدايات وجوده على معاداة اليهود والحركات الماسونية وعلى حدما الأنظمة الجمهورية والنموذج الليبرالي بشكل عام، عاد في السنوات الأخيرة لينتقل بخطابه من التركيز على ما يصفه البعض بعنصرية انتقائية تستفرد بالمسلمين دون غيرهم، وتخلى عن كراهية اليهود، وأصبح أكثر قربا وتفاهما مع الاحتلال الإسرائيلي.

ثم جاءت الأزمة المالية العالمية في 2008 لتمنح تيارات اليمين المتطرف فرصة نادرة لتسويق معاداتها للعولمة والليبرالية ومجتمع الاستهلاك وفتح الحدود والتخلي عن الحمائية الاقتصادية.

وبعد الربيع العربي وتصاعد موجات الهجرات نحو أوروبا نشطت هذه التيارات في التحريض ضد اللاجئين، وتسويق خطاب تخويفي يُحذر من أن أوروبا في طريقها إلى خسارة هويتها بسبب الهجرة الواسعة القادمة من البلدان المسلمة.

صحيح أن اليمين المتطرف صعد انتخابيا في أكثر من بلد أوروبي، ولكنه فشل حتى الآن في تصدر المشهد السياسي الأوروبي والإمساك بزمام السلطة في غالبية البلدان الأوروبية، ومع ذلك لم يعد على هامش الحياة السياسية مثلما كان، ويبقى السؤال مطروحا بشأن مستقبل الموجة اليمينية الحالية، هل هي موجة عابرة وتتبدد، أم باقية وتتمدد؟

المصدر : الجزيرة