(34) بلاغاً خلال الربع الأول من العام الجاري التزوير في مستندات الأراضي .. أسرع طريق للثراء الحرام
خبير أمني: الدعوات المدنية تستغرق وقتاً طويلاً
قصة مفجعة عن أسرة مغتربة فقدت كل ما تملك بسبب عصابة
محامٍ: أختام وأسماء المحامين أدوات تستخدم في العمليات الإجرامية
“إبراهيم” شاب في مقتبل العمر يعيش أيام شبابه بكل زهوها ونضارتها، يدرس في إحدى الجامعات السودانية بعد أن ترك الغربة مع أسرته في إحدى دول الخليج، وجاء إلى السودان ليبدأ مرحلة الدراسة الجامعية، وعند عودته سكن وحيداً في منزلهم الذي يتوسط أحد الأحياء الراقية شرق الخرطوم، والمنزل يتكون من ثلاثة طوابق سكب فيه والده عصارة جهده وحصاد غربته، ليهيء لأفراد أسرته عيشاً كريمًا وسكناً راقياً وأنيقاً، وظل (إبراهيم ) يقيم وحيدًا في هذا المنزل الجميل ويواصل دراسته الجامعية، وفجأة قفزت إليه فكرة جنونية ومذهلة ما كانت تخطر على بال أحد رغم أنه يعيش في رغد من العيش، إذ كان والده يبعث له مصروفه الشهري بانتظام وهو في الحقيقة يكفي لشهور وليس شهراً واحداً، ولكن الفكرة المجنونة سيطرت على عقله وهي التي أفقدت أسرته وفي لحظة كل ما تملك وما هاجرت من أجله، ما كان لهذه الأسرة أن تحتملها لولا أن توفر لابنها الذي تبني عليه آمالاً عراضاً كل احتياجاته، إنها فكرة بيع المنزل ذي الطوابق الثلاثة.
مافيا وتزوير
يعد الانفجار السكاني الضخم الذي شهدته ولاية الخرطوم نتيجة الهجرات العكسية واستقبال النازحين والمهمشين إليها، وبعد اشتعال نار أسعار الأراضي التي أصبحت أعلى سلعة متداولة في السوق.. تصاعدت ظاهرة تزوير مستندات بيع الأراضي وإثبات الشخصية ووثائق التوكيل، بغرض الاستيلاء على أراضي وعقارات الغير بكل الوسائل غير المشروعة، فبدأت الجريمة كمهدد للمجتمع وتنامت بصورة متسارعة وأصبحت لها شبكات منظمة أو ما يعرف بـ(مافيا الأراضي)، تضم أفراداً من مختلف الأجهزة والمؤسسات المعنية، إضافة إلى المفصولين عن العمل الذين يمتلكون الخبرة والحنكة التي تمكنهم من التقليد والتضليل والتزوير بمقدرة هائلة، وسخروا لذلك كل ما هو جديد وحديث من التقنية المتطورة، وقد أفقدت هذه الجريمة كثيراً من الأسر ممتلكاتها وفلذات أكبادها .
مفاجأة وصدمة
وبالعودة إلى قصة الطالب الجامعي، كان السؤال كيف لإبراهيم أن يبيعه وهو غير مسجل باسمه، فهو مسجل باسم والده المغترب المالك الحقيقي والوحيد للمنزل، ذهب إبراهيم لأحد المحامين وعرض عليه الفكرة رغم أنه لا يمتلك أي مستند للبيع، ولكن بعد جهد وقع في شباك مافيا الأراضي والعقارات الذين احضروا له التوكيل الذي يمكنه من بيع منزل غير مملوك له، وغير مسجل باسمه، تم بيع المنزل وقام إبراهيم باستئجار شقة وبعد أشهر قليلة عاد والده إلى السودان وخرج من المطار قاصداً منزله، بعد أن تفاجأ بعدم وجود إبراهيم في استقباله بالمطار، وعندما وصل المنزل وجد أسرة تقيم فيه فاستغرب لما يحدث، فعلم من رب هذه الأسرة أنهم اشتروا هذا المنزل وهو مملوك لهم بالمستندات القانونية التي تؤيد ملكيتهم، فاندهش الأب المغترب وصعق، وعندما علم إبراهيم بوصول والده انتحر قبل أن يكتشف ما ارتكبه من جرم في حق أسرته. هذه الواقعة ترسم صورة مأساوية لأسرة فقدت كل شيء في لحظة وراحت ضحية لعصابات التزوير التي أصبحت تشكل عبئاً على المجتمع.
مدخل الجريمة
بحسب قانونيين أن الظاهرة بدأت كتحدٍّ، والآن أصبحت مهدداً خطيراً، وربما تكون هناك شبكة من عدة جهات ساعدت إبراهيم على استكمال مستندات البيع التي رجح المحامي (أحمد حسن شريف) أن تكون مزورة، لذلك أرجع المسؤولية المباشرة على المحامي الذي قام بتوثيق واعتماد المستندات، وذلك لعدم التزام المحامي بالمادة (18) من قواعد التوثيقات الصادرة عن رئيس القضاء، ويقول: (تمنع المادة (18) أي محام أو موثق، من أن يجري أية وثيقة بالتصرف في أي عقار مسجل وفقاً لقانون تسوية الأراضي إلا بموجب شهادة بحث صادرة عن المالك الأصيل، لغرض البيع أو الرهن أو الهبة على أن تكون شهادة البحث صادرة في موعد لا يتجاوز الـ(7) أيام من تاريخ إبرام الوثيقة بالغرض، ويؤكد أن الخطأ دائماً يكون في الممارسة وعدم التقيد بحرفية نص المادة (8)، وكلمة تصرف الواردة في النص تعني التوكيل الخاص للبيع أو الرهن وليس التوكيل العام، فجزء من الخلل يكمن في عدم التزام المحامي بنصوص المادة 18 بينما الجزء الآخر من الخلل في تزوير مستندات إثبات الشخصية، وهذا هو المدخل الحقيقي الذي يقود لجريمة التزوير.
حماية الثقة
المحامي (إدريس عكاشة) يقول الحق المسجل على الورق أفضل من حفظه في الذاكرة، لأنه أدعى للثقة بين الناس في ضبط علاقات الأفراد، وتحديد الواجبات فيما بينهم، وجاءت كل التشريعات المختلفة لحماية هذه الثقة، ونادت بمكافحة أي اصطناع للمحررات، فأصبحت جرائم التزوير من الجرائم المخلة بالثقة أو باليقين، فهي جرائم خطيرة العاقبة من زاوية أنها تطرح مشكلات جمة وما تحتاجها من عناية في حلها بما يرضي من القانون، وتعريف جريمة التزوير في المادة (122) من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م (يعد مرتكب جريمة التزوير في المستندات من يقوم بقصد الغش باصطناع مستند أو تقليده أو إخفائه أو إتلاف بعضه أو إحداث تغيير جوهري فيه، وذلك باستخدامه في ترتيب آثار قانونية)، وقد أفرد المشرع لمخالفة هذا النص عقوبة بالسجن بألا تتجاوز خمس سنوات، كما تجوز معاقبته بالغرامة ، وفي حالة كون الجاني موظفاً عاماً السجن مدة لا تتجاوز سبع سنوات، ويجوز معاقبته بالغرامة.
أكبر جريمة تزوير
ويواصل (عكاشة) حديثه قائلاً: في سبعينات القرن الماضي وقعت حالات نادرة من التزوير، لكن في منتصف الثمانينات كان الزلزال الكبير الذي عصف بمكتب تسجيلات أراضي الخرطوم حيث مثل أمام القضاء 48 متهماً كانت جريمة التزوير الجريمة الرئيسية، ومن بين المتهمين للأسف المسجل العام وأحد مساعديه واثنين من كبار موظفيه، وكانت المساحة الكلية التي تم الحصول عليها بطريقة غير مشروعة قدرها (406/ 2590) فدان من الأراضي الزراعية، و50 ألف متر مربع من الأراضي السكنية، وقد تم التصرف لجزء كبير منها بالبيع للجمهور حسن النية، أسدل الستار في هذه القضية عام 1990م، واستطاع مكتب تسجيلات الأراضي بالخرطوم تخطي المحنة، بما يتمتع به من خبرة طويلة وتقاليد راسخة تمتد من عام 1909م، وخبرائه الأكفاء من سد الثغرات في السجلات وإقصاء العناصر المفسدة .
شركاء المهنة
والآن أصبحت كل مكاتب التسجيلات تعمل بوسائل التقنية الحديثة من موظفين يتمتعون بالحصانة العالية، وأيدٍ نظيفة تحت رعاية رئيس القضاء سعادة مولانا حيدر دفع الله، والذي قبل أيام قليلة كان في زيارة رسمية لمكتب تسجيلات الباقير بالجزيرة، وما زال الحديث لعكاشة، مطالباً أن تتكرر مثل هذه الزيارات مستقبلاً لأن فيها رفع لمعنويات الجنود المجهولين الذين تحت أيديهم حقوق العباد، فهي أمانة تقتضي الحراسة الدائمة في مواجهة المجرمين الذين يسعون لاختراق مثل هذه المكاتب الحصينة سعياً وراء الكسب الحرام عن طريق التزوير وغيره، وأشار أنه بتطور التقنية لم تستسلم شبكات التزوير، بل استخدمت هذه التقنية لأغراضها الشريرة حيث لجأت إلى الاسكنر (الطابعات الملونة) في تزوير الهويات الثبوتية وشهادات البحث، مستهدفة الأراضي المسجلة والحيازات على السواء .
طرق كثيرة
ويؤكد أن عمليات التزوير تفوق قدرات الفرد العادي لأنها في حاجة إلى موارد وعلاقات وبيانات ومهارات في التأمين والإخفاء يقوم بها شركاء متعددون، وعادة يتوارون عن الأنظار ويلوذون بالاختفاء فتطال العدالة بعضاً منهم ضحايا قليلي الحيلة، ولأن طرق التزوير كثيرة لا يمكن حصرها إلا أن أختام المحامين وأسماء المحامين تعتبر من الأدوات المهمة والضرورية في هذه العمليات الإجرامية، وفي الغالب تكون الأختام مسروقة، كما يقول عكاشة الذي يرى من الظلم أن تنسب هذه الجرائم للمحامين مدعاة لتشويه سمعتهم.
وعاد ليضيف أن في كل طائفة مهنية أشراراً كانوا معلمين أو أطباء ومهندسين، وشراذم الأشرار بالتأكيد لا تعبر عن هذه الطوائف الشريفة، وأن العبء ثقيل على المحامين من جهة حفظ الأختام وعدم التفريط فيها، وحفظ أسرار الموكلين منها بياناتهم الشخصية ووثائقهم المتنوعة والمحامون ليسوا في حاجة إلى من يوجههم بالواجبات.
محامٍ وهمي
وسرد قصة في إحدى القضايا الجنائية كانت المتهمة ربة منزل عن طريق عقد بيع صادر من محام في أرض مسجلة تقدمت به لإحدى المحاكم بغرض إثبات البيع وحصلت على حكم بمخاطبة تسجيلات الأراضي، وتمكنت من التصرف في الأرض بالبيع فتم القبض عليها وأثناء التحريات اتضح أن اسم المحامي أسم وهمي لا وجود له في سجلات الموثقين، تمت إدانتها وأودعت السجن، وعادت الأرض لمالكها المجنى عليه، ويقول إن الأرض هي المأوى والمزرعة والمصنع، وفي سبيل حفظه تهون الدماء، وفي الآونة الأخيرة ارتفعت أسعارها بشكل جنوني فباتت تغري المجرمين للحصول على المال والثروة بطريق الحرام والتزوير، والظاهرة آفة سامة ومدمرة تهدد استقرار وأمن المواطن، فالقضاء عليها يستدعي حملة وطنية قوامها السلطة القضائية والشرطة والإعلام وجهات التشريع والأخيرة مطلوب منها عاجلاً إلغاء المادة 38 من الإجراءات الجنائية لسنة 1991م لأنها شكلت ملاذاً آمناً للمجرمين بعد انقضاء مدة التقادم .
دور الملاك
ويضيف كذلك في حاجة ماسة لضوابط وآليات في التعامل مع الحيازات حفاظاً لحقوق الناس، كما أن للملاك دورا كبيراً في حماية الأرض من التزوير يأتي في قمته حفظ البيانات والوثائق في أمكنة آمنة ومراجعة السجل بشكل منتظم بغرض الاطمئنان على سلامته.
وبحسب متابعات (الصيحة) وصل عدد البلاغات في الأشهر الأولى من هذا العام إلى (23) بلاغاً مع العلم بوجود عدد كبير من الحالات التي تمت تسويتها بدون بلاغات، وأمن مصدر شرطي على محاربة جرائم التزوير التي تتصدر قائمة الجرائم كلها، وتمكن المجرمين من الاستيلاء على عقارات المواطنين بالغش دون أن يدري أصحابها بذلك، وطالب بوضع الحلول الناجعة لهذه الجريمة، مشيراً أن المباحث المركزية أولت اهتماماً كبيراً وخاصاً بجرائم التزوير والتزييف، وقامت بإنشاء شعب متخصصة في هذه الجرائم لمكافحتها وتم اختيار كوادر ناشطة في هذا المجال، وهناك تدريب مستمر لأفراد الشعبة الذين يعملون بالنيابات المتخصصة، لأن جريمة التزوير بدأت تتزايد بشكل غريب.
خمسة في خمسة
الخبير الأمني د. (الرفاعي موسى) يقول إن كلمة ظاهرة تتكون من خمسة حروف وكلمة تزوير تتكون أيضاً من خمسة أحرف، وجهات الاختصاص المنوط بها القضاء على الظاهرة هي خمس جهات، وهي القضاء، والعدل، والشرطة، والأمن والمحاماة، فلو تضافرت جهود هذه الجهات الخمس عبر اللجان المشتركة في المحليات السبع وتعاهدت على القضاء على التزوير لتمكنت من ذلك، والبداية تكون من مكاتب العقارات التي فاق عددها الـ(5678) مكتباً بولاية الخرطوم، جزء كبير منها وهمي يساعد في عمليات النصب والاحتيال على المواطنين وبيع الأراضي بأوراق مزورة، إلى جانب سماسرة الأراضي وبعض أعضاء اللجان الشعبية الذين يتبادلون المهام والأدوار في الصيد الوفير من الحيازات التي تتعرض للتزوير، حيث تجد القطعة الواحدة مملوكة لأكثر من سبعة أفراد في الوقت ذاته لدى المالك الحقيقي الذي قد يكون مغترباً ولا علم له بما يدور على أرضه .
الغرض من التزوير
ويشير الرفاعي إلى أن تزوير وثيقة التوكيل الغرض منها استخراج شهادة بحث لبيع الأرض، وتنتشر هذه الجريمة بصورة واسعة لأنها سهلة وتتم عن طريق بعض الدخلاء على مهنة المحاماة والسماسرة وبعض أصاحب مكاتب العقارات، وتتم ببساطة بعد أن يملّك المتهم المحامي المعلومات الخاصة بالقطعة، فيقوم المحامي بإحضار التوكيل الذي يمكّن المتهم من البيع والرهن والتوقيع على عقد البيع، بل وتفويض المشتري بنقل ملكية القطعة وتحويلها إلى اسمه من اسم صاحبها الحقيقي الذي لا يعلم ببيع أرضه إلا بعد مراجعة سجل الأراضي، وقد يكون ذلك بعد سنوات طويلة من تاريخ ارتكاب الجريمة، بالتالي، فإن المالك الذي يكتشف أن الأرض التي يسكنها تم بيعها بالتزوير لا يستطيع استردادها إلا بإقامة دعوى مدنية تستغرق فترة طويلة للفصل فيها، ويقول في وضع المشتري حسن النية والرجوع عن البلاغ، وأن تعاد الأرض المباعة بالتوكيل المزور إلى صاحبها وفقًا للقانون.
ازدياد الجريمة
وكان وزير التخطيط العمراني بولاية الخرطوم د. جمال محمود حامد، قد كشف في حديث سابق عن زيادة جرائم التزوير والاحتيال في شهادات البحث الخاصة بالأراضي، وأقر بوجود تلاعب في أراضي الحيازات، وأضاف (كثير من الناس تهدف إلى تملك الأراضي واستغلال أي مساحات فاضية والتعدي على ممتلكات الغير)، واعتبر التعديات تمثل تحديًا حقيقيًا يواجه الوزارة، وأشار إلى عدم وجود اعتداء على الميادين والساحات العامة وذكر (لا توجد ميادين يتم التصرف فيها وإنما الادعاء جاء نتيجة خلط من المواطنين مؤكدًا سعيهم للقضاء على ظاهرة التلاعب في مستندات الأراضي
أخيرًا ..
اتضح من خلال الإفادات السابقة أن جريمة التعدي على أراضي الغير من خلال تزوير المستندات ظاهرة متفشية تعددت أساليبها وأنواعها وتفنن المتهمون فيها بأساليب منظمة وتبقى المسؤولية مشتركة بين الجميع بمن فيهم المالك الحقيقي وهو المتضرر الأول والأخير، وقد اتفقت الإفادات على ضرورة تنشيط عمل اللجان المتخصصة بالتعاون مع اللجان الشعبية للمحافظة على الأراضي مع وضع الوثائق في أماكن آمنة وعلى المحامين حماية الأختام.
تحقيق: إنتصار فضل الله
صحيفة الصيحة