ظلموني ومازالوا يظلمون غيري
كتبت كثيرا عن معاناتي من عمى الألوان، الذي جعل أفراد أسرتي يخفون فرشات أسنانهم بعيدا عن متناول يدي، ثم لجوئهم إلى شراء فرشات أسنان ذات تصاميم عجيبة لي، كي يسهل علي »معرفتها«، ولكن معاناتي هذه كانت أخف من العذاب الذي عانيته مع علم الرياضيات، والذي سعدت بمفارقته بغير معروف عند الالتحاق بالجامعة
كانت المراحل ما قبل الجامعية كابوسًا بسبب الحساب والجبر، وكنت -من دون فخر- معروفا بالبلادة في كل ما يتعلق بالأرقام، ومازلت إلى يومنا هذا أعاني من عمليات الجمع والطرح البسيطة، أما الضرب والقسمة فلا أعرض نفسي للتوتر والحرج حتى بمجرد »المحاولة«، ومنشأ البلادة في الرياضيات هو أن الأرقام لم تكن تعني بالنسبة إلي شيئًا، حتى هذه اللحظة لا أفهم لماذا تصبح 8 صفرا إذا ضربناها في صفر، ما السر الكامن في الصفر حتى يلغي الـ 8 التي هي أكبر منه؟ وفي الجبر كانت تواجهني مسائل من شاكلة ص-س مضروبة في ج أس 3 زائد دال = صفر، والمطلوب من التلميذ أن يحل المسألة! ما هي محلولة بدليل أن نتيجتها معروفة! ثم، يا أستاذ أنت تعرف أن نتيجة تلك الألغاز صفر فعلام تعرض تلاميذك للتعب والبهدلة؟ وياما تعرضت للتريقة كلما سألني المدرس سؤالا سخيفا مثل 8 زائد 7، أو 9 في 4، كنت عندها أنظر إلى السقف وأصابع يدي وقدمي تتحركان بسرعة جنونية بحثًا عن الإجابة، فيفاجئني المدرس بتعليق بايخ: الإجابة مش مكتوبة في السقف!
وبدون رياضيات لا مجال لدراسة العلوم، وهكذا عانيت أيضًا من الكيمياء والفيزياء، وأذكر كيف تصببت عرقا عندما صرفوا لي في المدرسة الثانوية جداول اللوغريثمات، فقد حسبت أنه »عمل«، بمعنى أن شخصًا يكرهني أو يحسدني )لا تسألني: على ماذا؟( قام بكتابة تلك الطلاسم كي يلحق بي الأذى. والغريب في الأمر هو أنني كنت لا أكره ذلك الفرع من الرياضيات الذي يسمى »الهندسة«، ربما لأنني جبان، فالهندسة تتألف من قوانين، وأنا أخاف من القانون ورجال القانون، ولا أتردد في رفض أي وظيفة مهما كانت مغرية إذا قالوا لي إنها توفر لي »الأمن« الوظيفي. حد الله بيني وبين الأمن، فهذه كلمة يسميها الإنجليز misnomer أي ذات استخدام ومعنى »مخلوط«، فـ»الأمن« يسبب القلق والخوف، فكيف يعطي الأمن والأمان؟ المهم أنني وإلى يومنا هذا أستطيع أن أحل المسائل المتعلقة بالمثلثات والدوائر، وأعرف نظرية فيثاغورس جيدًا )أذكركم بحكاية نقلتها من قبل عن صحيفة سعودية، عن رجل نال الدكتوراه في الرياضيات وذات يوم، كان يتكلم مع زوجته حول نظرية فيثاغورس، واكتشف أنها لم تسمع بها فطلقها، وكتبت عدة مقالات في صحف سعودية أعرض على الفتيات السعوديات إعطاءهن دروسًا خصوصية عن طريق التعليم من بعد في تلك النظرية، كي لا يتعرضن للطلاق(، ولكن كانت هناك نظرية في الهندسة اسمها أبولونياس لم تدخل رأسي قط رغم أنني حاولت مرارا فك طلاسمها، وأعتقد أن سبب ذلك هو أن اسمها »يعقد«، فهل من تثريب على شخص إذا حسب أنه أخو آينشتاين في الرضاع؟
على كل حال بارك الله في الخواجة البروفسور برايان بترويوث من جامعة لندن الذي أثبت أنني من ذوي الاحتياجات الخاصة، وأعاني من مرض اسمه ديسكاكيوليا Discalculia الذي يصيب نحو 6% من بني البشر، والإنسان يولد بهذا المرض الذي يجعل المصاب عاجزًا عن فهم دلالات الأرقام لعلة عصبية/دماغية، كما أنه يجد صعوبة في حساب »الفكة/الخردة«، أي يشتري شيئًا فيعيد إليه البائع مبلغا من المال، فلا يحسن الشخص المصاب بالديسكاكيوليا معرفة ما إذا كان قد تسلم »باقي المبلغ« الصحيح أم لا، ولا يفهم ما تحتويه بيانات الرصيد التي تصله من البنك، وربما يفسر هذا فشلي المزمن في »تكوين نفسي« رغم أنني مغترب في منطقة الخليج منذ معركة ووترلو حيث انهزم نابليون وتم نفيه إلى جزيرة سانت هيلينا وتوجهت أنا إلى الخليج، والشكر موصول إلى السيدة هيلاري فريمانز التي وجدت الشجاعة لتكتب عن معاناتها من ذلك المرض في صحيفة التايمز اللندنية )عدد10 مارس المنصرم(.
وهكذا فإن جميع من كانوا يصفونني بالبلادة -مدرسين وطلابا- مطالبون بالاعتذار لي بعد أن ثبت علميا أنني أعاني من إعاقة. حتى عام 1974 كان هناك صغار يوصفون بالكسل والخمول والغباء لعدم قدرتهم على القراءة والكتابة، وتطوير ملكاتهم اللغوية، ثم اتضح في تلك السنة أن شريحة كبيرة من الناس تعاني من بطء في التعلم وخاصة في مجال اللغة بسبب مرض اسمه ديسلكسيا Dyslexia.
بالمناسبة أنا أتكلم عن الإعاقة التي أعاني منها بكل جدية، وأملي أن ينتبه أولياء الأمور والمدرسون إلى احتمال أن الطفل الذي يصفونه بالغباء والحمورية قد يكون يعاني من اضطراب يجعله بطيء الفهم في مجالات معينة، وليت الآباء والأمهات يكفون عن إجبار عيالهم على الالتحاق بالأقسام العلمية رغم أنوفهم لأنهم يريدون منهم أن يصبحوا أطباء ومهندسين.
بالمناسبة نحو 95% من قادة العالم خريجو أقسام وكليات أدبية!!
جعفر عباس _ زاوية غائمة