بهاء الإعلانات يحيلنا إلى بلهاء
لا أكف عن ترداد أن طفولتي كانت خالية من أي مظهر من مظاهر الترف والنغنغة، وقد كان جميع أهل بلدتنا يأكلون يوميا ثلاث وجبات مغذية، ولكنها تتألف من عناصر طبيعية طازجة. بس صنف الفطور، هو نفس صنف الغداء والعشاء وربما السحور، وكان لدي جلباب واحد للمدرسة، وكان على أمي أن تغسله يوميا، ولكنه وبمرور الأيام كان يفقد لونه الأبيض ويتحول إلى بني أو رمادي، وبعد المدرسة كنت ارتدي قميصا نسميه في السودان العراقي، وهو يصل إلى ما تحت الركبة بقليل وأكمامه قصيرة )وسر تلك التسمية هو أن وظيفة تلك القميص كانت نفس وظيفة الفانيلة الداخلية على أيامنا هذه، وهي امتصاص العرق ومنع تسربه إلى الجلباب الذي يلبس عادة فوقه(، كما كان لي زوجان من الأحذية، أحدهما شبه محترم للمدرسة، والآخر مبهدل للاستعمال داخل البيت وأثناء اللعب، وكانت المهمة الأساسية للحذاء اللا مدرسي، وقايتنا من لسعات العقارب، وكانت أحوالي تتحسن بين فترة وأخرى عندما تضيق ملابس شقيقي الأكبر عليه وتؤول ملكيتها إليَّ.
لم يحدث قط ان اشترى لي أهلي لعبة، ليس بخلا منهم، ولكن لأن بلدتنا لم تكن قد سمعت بعد باختراع لعب الأطفال، وكنا من ثم نمارس ألعابا شعبية ممتعة وتنافسية، أو نبني أشكالا مختلفة من الطين وكان بعضنا يأخذ من الطين »لحسة« )اكل الطين والتراب متفش في جميع أنحاء العالم(، ومع هذا لم أشعر قط خلال تلك الفترة أنني محروم أو فقير، فقد كان حالي مثل حال جميع الصغار من حولي، وحقيقةً، لم يكن بيننا فقير حتى بمقاييس الزمن الحالي، وكانت طموحاتنا ونحن صبية متواضعة: هذا يحلم بأن يصبح سائق لوري )شاحنة(، وذاك يريد ان يصبح ممرضا، وثالث يريد أن يصبح مدرسا.
أصدرت جمعية الطفل البريطانية تقريرا يقول إن 10% من الأطفال في المرحلة الابتدائية يعانون من اضطرابات نفسية، وإن معظم الضحايا من الأسر الفقيرة!! لماذا؟ بسبب الإعلانات التجارية الخسيسة التي تعرض أمامهم شتى صنوف الملابس والألعاب والمأكولات، وتجعلهم يتوهمون أنهم سيعيشون في عوالم وردية إذا ما اقتنوا هذه السلعة أو تلك. ولا يتفهم الصغار ان ظروف الوالدين المالية تسمح بالكاد بتوفير الطعام والمأوى وملابس لا علاقة لها بالموضة، ثم يذهبون إلى المدارس ويحتكون بنظراء يرتدون أحذية نايكي وأديداس الرياضية، ويحملون معهم أشياء إلكترونية »تهبل«.
عندما يعيش الانسان في بيئة تتساوى فيها ظروف الجميع بدرجة أو بأخرى، فإنه لا يشعر بالحرمان ولكن الإعلانات التلفزيونية تقتحم بيوت الفقراء وتخرج ألسنتها لهم. ومن ثم تجد في الدول الفقيرة من يعتبر شراء مكعبات شوربة مجففة قفزة حضارية، وياما تعرضت بيوت للخراب لأن طرفا في العلاقة الزوجية طالب بنيل شيء رآه في الإعلانات التجارية من دون الأخذ في الاعتبار أن الموارد المتاحة لا تسمح بذلك.
وظهرت في الآونة الأخيرة مفردة »ماركة«: هذه الحقيبة النسوية ماركة/ وكذلك البلوزة والحذاء والساعة، والمقصود بتلك الكلمة أن منتجا ما عالي الشهرة و»المستوى«، مع أن كلمة ماركة تعني في غالب الأحول »علامة تجارية«، وبالتالي فحقيبة سعرها 5000 دولار ماركة وأخرى سعرها خمسة دولارات أيضا ماركة.
وكل من يستخدم معجون أسنان يعرف أن قطعة منه تساوي حبة حمص في الحجم على الفرشاة تكفي لتنظيف الأسنان، ولكن إعلانات جميع أصناف المعجون تجعل المعجون يغطي الفرشاة بالكامل، ويستخدمها المستهلك بالصورة التي جاءت في الإعلان فتكون نسبة الاستهلاك عالية ويشتري الأنبوب تلو الأنبوب.
وإعلانات الشامبو وكريمات الشعر لا ترى فيها إلا حسناوات شعرهن ناعم كالحنان، وطويل كنظرات المتطفلين، ولكن ذلك يوحي للمستهلك بأن الشامبو/ الكريم هو الذي جعل شعر الحسناوات بكل ذلك البهاء، وهكذا تحولنا الإعلانات إلى بلهاء.
زاوية غائمة
جعفر عبـاس