مقاطعة اللحوم .. تفاصيل ما حدث الجزارون: المقاطعة قد تأتي بنتائج عكسية
تجار المواشي: الجبايات سبب مباشر في الارتفاع
غياب الرقابة أدى إلى الانفلات في الأسعار
الدفع الآجل ودخول السماسرة من معضلات سوق اللحوم
والساعة تشير إلى الثانية عشرة منتصف النهار ارتفعت أصوات مكبرات الصوت وهي تعلن أن سعر الكيلو الضأن 160 جنيهاً وقع الصوت ورن في أذني كنغمة موسيقية تطرب القلوب وتعدل المزاج ودونما تفكير حدثتني نفسي بأن سلاح المقاطعة الذي أشهره ناشطون بمواقع التواصل الاجتماعي قد أينعت ثماره فهرولت ناحية المحل وتملأني الغبطة والحبور . وقبل أن تكتمل فرحتي ارتفع صوت مكبر الصوت من مكان آخر يجاور المحل الذي أقصده ويعلن أن كيلو الضأن 180 فأصبت بحالة من الارتباك ودونما أن أدري وجدت نفسي في محل ثالث وكانت المفاجأة عندما علمت أن سعر الكيلو 220 جنيهاً.
تفاوت في الأسعار
تفاوت الأسعار في محلات تجاور بعضها البعض جعل الأسئلة تتقافز إلى ذهني وتتملكني الحيرة، فالأمر بدا لي ليس منطقياً، وأخذت تدور في ذهني عدة استفهامات لم أجد لها اجابة واضحة. غير أن الفضول الصحفي دفعني لتقصي هذا الأمر فاقتحمت المحلات وأمطرتهم بوابل من الأسئلة وكان سؤالي محدداً ومباشراً لأحد الجزارين ويدعى (ميسرة محمد قسم الله) قلت له أنت تبيع بمئة وستين هل ذلك بدافع المقاطعة ضحك محدثي ملء شدقيه وأجاب بصورة مقتضبة إن السعر الذي أبيع به ليست له علاقة بالمقاطعة، فقد سمعنا بها وقرأنا عنها وفي رأيي أن كل المسألة حديث للاستهلاك وأشبه (بالدق في البحر)، فبادرته بسؤال آخر هل يعني حديثك أن كل الجهود التي بذلها الناشطون في السوشيال ميديا في الحث على المقاطعة لا يمكن أن تثمر نتائج إيجابية تسهم في انخفاض الأسعار.
شفافية ووضوح
الرجل كان واضحاً وشفاف في إجاباته دعاني إلى فنجان من القهوة وبدأ يسترسل معي في الحديث وأنا أستمع في إصغاء تام أخبرني أن المسألة معقدة وتدخل فيها الكثير من التفاصيل التي لا يعلمها إلا من هو في دهاليز (الكار)، فهناك عوامل تداخلت وأدت إلى هذا الارتفاع، وهذه التفاصيل حلها موجود بيد الدولة، وإذا لم تتدخل سيتفاقم الوضع إلى الأسوأ ولن تفلح معه مقاطعة بل على العكس فإن المقاطعة قد تأتي بنتائج عكسية سيدفع ثمنها المواطن .
أسعار اللحوم
حديث الرجل بدا لي غامضاً وكأني أطالع قصيدة تنتمي الى المدرسة الرمزية فقاطعته بتوضيح الصورة مباشرة حتى أصل لإجابة لاستفساراتي عن أسباب التباين في أسعار اللحوم .
إجابة شافية
كانت إجابة الرجل شافية بالنسبة لي، إجابة تنم عن خبرته الطويلة في هذا المجال، فحلت لي الكثير من العقد التي رسمت لي خارطة الطريق لمزيد من التقصي، قال لي محدثي إن الجزارين ثلاثة أنوع هنالك من يشتري الماشية نقداً وتكون له امتيازات بالتخفيض على كل رأس، وهذا النوع من الجزارين يربح كميات محدودة، ويضع هامشا للربح، وبالتالي يبيع بأسعار معقولة حتى تنفد الكمية سريعاً ويعيد الكرة مرة أخرى.
دفع آجل
أما النوع الثاني، كما يقول رفيقه (عم سراج ) فهو الجزار الذي يشتري ويؤجل الدفع، فهنا يكون تحت رحمة تجار الماشية فيضاعفون له السعر فيضطر إلى البيع بالسعر الذي يغطي معه بعد إضافة رسوم المسلخ، الكشف الطبي والترحيل والجبايات اليومية.
دخول السماسرة
أما النوع الثالث فهو الدخيل على المهنة، وهذا النوع يقع ضحية للسماسرة الذي يتوسطون له في شراء الماشية ويقبضون منه عمولات تنسحب على سعر الكيلو، لأن هذا الشخص بعدم خبرته وإلمامه بسر المهنة يتكبد خسائر فادحة لا يمكن أن يعوضها إلا بزيادة السعر، الأمر الذي سيتحمله المواطن.
تجارة الماشية يصرخون
الشيء الذي استخلصته من حديث الرجل أن الزريبة عالم قائم بذاته، وأن هنالك تجاراً يتحكمون في السوق بحسب معطيات الواقع والظروف المحيطة بهم، فكان يستوجب علي أن أصل الزريبة لمزيد من التقصي فالتقيت بعدد من تجار المواشي وداعبتهم بقولي البهائم دي إلا تاكلوها انتو فرد علي أحدهم ذو شارب كثيف فدعاني للجلوس معهم على عنقريب (هبابي) وريحة الروث تغطي المكان وبعد أن علموا بالمهمة التي جئت من أجلها التف بعضهم حولي وجلسنا ندير حواراً ساخناً وعلت الأصوات، وجهت لهم اتهاماً مباشراً أنتم تتلاعبون بقوت الشعب بتحكمكم في الأسعار، رفضوا هذا الاتهام جملة وتفصيلاً وكان رد كبيرهم أن الزيادات التي طرأت على أسعار المواشي هي نتاج طبيعي للارتفاع في سعر العلف والرسوم والجبايات التي قصمت ظهرنا (فعليقة) الخروف الواحد في اليوم تصل الى 100 والضأن بطبيعته يحتاج إلى الأكل باستمرار أضف إلى ذلك الرسوم التي تفرضها علينا المحلية والنفايات والصحة وهلمجرا فليس لنا مفر غير الزيادة والسوق لا يرحم فالحل بيد الدولة تقلل من الجبايات سينخفض السعر تدريجياً ومن مصلحتنا أن تنخفض الأسعار حتى تكون في متناول يد المواطن نحن ليس بيدنا شيء نتعامل مع الوضع وفقاً لمعطياته .
أما فيما يتعلق بالمقاطعة، رد علي أحدهم بعبارة (دي ونسة واتساب لا بتجيب ولا بتودي)، مشيراً إلى أن توقيت المقاطعة لم يكن مناسباً، فإذا كانت المقاطعة في بداية الصيف كان من الممكن أن تأتي أكلها لكن الآن لا يمكن أن تثمر نتائج إيجابية بعد دخول فصل الخريف فبإمكاننا أن نرحل كل بهائمنا إلى الخلاء تاكل وتشرب بالمجان دون أن تكلفنا جنيهاً واحداً وبالتالي يقل الوارد وترتفع الأسعار بأكثر مما كانت عليه .
فسألته عن الحلول، فأجاب بصورة مقتضبة أن الحل بيد الفيل ونحن ظله.
نفس السيناريو
ذات السيناريو الذي وجدته بالمحلات القابعة في لفة أم بدة الجميعاب قبالة السوق الشعبي أم درمان وجدته في محلات اللحوم في قلب السوق، فكانت وجهتي لمحلات أولاد مدني والتقيت بـالجزار (محمد) فأخبرني أنهم تحسبوا للمقاطعة بتقليل الكمية، وكشفوا أنهم تخصصوا في بيع اللحم العجالي، وأن سعر الكيلو يخرج من المسلخ بـ 120 ويبيعون بـ 140 مؤكداً أن ربحهم في الكيلو خمس جنيهات فقط بعد إضافة سعر الترحيل والجبايات.
عقوبات رادعة
أحد الجزارين بالسوق الشعبي يرى أن عدم الرقابة واحدة من أهم الأسباب التي أدت إلى تباين أسعار اللحوم، وطالب بتشدد الدولة ومعاقبة كل من يضاعف السعر، مشيراً الى أن عدم الرقابة ضاعف إحساس الجشع في النفوس وجعل الكثيرين يضاعفون بلا رحمة وضمير .
صورة ينقلها: معاوية السقا
صحيفة الصيحة