التمهيد لطلاق التدريس
كانت أول زيارة لي لبريطانيا في أواخر سبعينيات القرن الماضي كطالب علم عربيقي )عربي-إفريقي( الانتماء، لعام دراسي واحد، من أجمل سنوات عمري، وغيرت مجرى حياتي ب180 درجة، فقد تم إيفادي إلى لندن كعضو في أسرة التلفزيون التعليمي، لدراسة الإنتاج التلفزيوني، وبهذا تم تمهيد الطريق أمامي لطلاق مهنة التدريس وولوج عالم الإعلام، وخاصة أن مجموعتنا مثل المجموعات التي سبقتنا إلى لندن وغيرها من العواصم لتلقي مثل تلك الدراسة، استفادت كثيرا من تجربة العمل في التلفزيون السوداني حينا من الدهر بعد العودة من لندن، ولكن الغريب في الأمر أن البوابة التي دخلت منها مجال الإعلام، كانت الصحافة الورقية، التي دخلتها عبر بوابة الترجمة، والأغرب من كل ذلك أنني لم استفد من دراستي لفنون العمل التلفزيوني في لندن إلا لفترة قصيرة نسبيا، وعندما اختاروني للعمل في تلفزيون بي بي سي عام 1994 اكتشفت أن كل المهارات التي اكتسبتها في مجال التلفزيون في لندن في سبعينيات القرن المنصرم، كانت من فصيلة »حضارات سادت ثم بادت«، يعني مهارات عفا عليها الزمان وصارت »تاريخا«، بسبب التطور المهول في تقنيات البث والإعداد والإخراج التلفزيوني.
دراسة فنون العمل التلفزيوني أمر ممتع للغاية، وخصوصا عندما تكون في لندن و»مش على حسابك«، بل على حساب بلد غني مثل ألمانيا، التي كانت تقدم المنح للتلفزيون السوداني والعاملين فيه، وكان إحساسي بالمتعة عاليا لأن الدارسة لم تكن مملة، ولم نكن ملزمين بتسجيل ما يقوله »الأستاذ«، ولم يكونوا يكلفوننا بأداء واجبات مكتوبة بعد انتهاء اليوم الدراسي، بل كانت المذاكرة الملزمة هي متابعة برامج تلفزيونية معينة بين الحين والآخر لمناقشة أسلوب إعدادها وإخراجها، ولم أكن بحاجة إلى من يكلفني بتلك »المهمة«، لأنه ما من متعة تعادل متابعة قنوات التلفزيون البريطانية لشخص مثلي، جاء من بلد تسيطر الحكومة فيه على الإعلام المرئي والمسموع والمقروء والمهموس، وتسبب متابعته حالة »عاع عوع« الناجمة عن الحموضة وعسر الهضم والفهم.
كان المونتاج الذي تعلمناه في لندن سواء في الصوت أو الصورة، يقوم على القطع بآلة حادة يسمونها سبلايسر splicer ولم يكن جهاز الأوتوكيو وهو النظام الإلكتروني الذي يجعل المذيع يستغني عن الورق، لأن الكلام الذي يقرؤه يكون ظاهرا على شاشة ملحقة بالكاميرا التي ينظر إليها، لم يكن معروفا بل كان يتم وضع الورق على قطعتين من العصي الخشبية الدائرية تعلو إحداهما الأخرى، ويتولى تدويرها يدويا عامل الاستوديو، وكانوا يسمونها رولر كابشن )النص الدوّار(.
وعندما حان موعد إعداد كل طالب لفيلم قصير يمثل مشروع التخرج، كلفوا سيدة بتدريسنا أصول إعداد ميزانيات البرامج والأفلام، وكانت تلك السيدة أثقل على قلبي من فاروق الفيشاوي، ليس فقط لأن أي دراسة تتعلق بالميزانية محشوة بالأرقام، وعقلي مصفح في مجال علم الحساب، بل لأننا وبقية الطلاب العرب كنا نتاج ثقافة لا تحترم التخطيط والتقيد بمخصصات أي مشروع – حتى لو كان مشروع زواج، وشرعت في إعداد الفيلم )البرنامج( وكان يتضمن مشاهد تمثيلية )دراما(، وجاء اليوم الأخير لتقطيع وتجميع عناصر الفيلم في ما يسمى بالمونتاج، واكتشفت أن بتلك العناصر عيوبا فنية في الصورة والصوت، بدليل أن أحد المصورين ظهر في المشهد الدرامي عندما التقطته كاميرا أخرى لأنه دخل »الكادر« غير عامد، ولأنه لم يكن هناك وقت لاستدراك الأخطاء فقد ذهبت إلى أستاذي مايكل بارات، وشرحت له ما حدث، فأبدى تفهما وتعاطفا، ثم سألني عن اسم الفيلم فقلت: اسمه »كيف لا تصنع برنامجا تلفزيونيا جيدا« How not to Make a Good TV program وأدهشني وأسعدني كثيرا لاحقا أن ادارة المعهد لم تجد الفيلم بالسوء الذي حسبته، وعرضته لعدة سنوات ضمن نتاج آخرين زاملوني أو سبقوني للدارسة فيه )ربما ليكون عظة لمن يعتبر(.
زاوية غائمة
جعفـر عبـاس