الطيب مصطفى

الظلم ظلمات يا هؤلاء


عجبتُ لمن لطموا الخدود وشقوا الجيوب غضباً من رئيس البرلمان لمجرد انه وقف سداً منيعاً أمام التغول على صلاحياته واختصاصاته الدستورية، وعجبت أكثر أن المتباكين على قيم الطهر ونظافة اليد التي يظنون أنها أهدرت جراء قيام رئيس البرلمان بالدور المنوط به تجاه الأعضاء هم (ذاتم) من ظلوا يسلقون البرلمان بألسنة حداد متّهمينه بأنه (لا يهش ولا ينش) وأنه محقور مهان مستكين للجهاز التنفيذي لا يملك إلا أن يستجيب لأية إشارة أو إيماءة من مجلس الوزراء أو السلطات الرسمية الأخرى!

إنه الكيل بمكيالين أو بالأحرى هو التطفيف في المكيال والميزان الذي لطالما زأر قرآن ربنا مقرّعاً مقترفيه أياً كانوا.

الواقعة التي نحن بصددها، ما كان ينبغي لها أن تتصاعد وتملأ الدنيا وتشغل الناس على هذا النحو الغريب، سيما وأنها ليست المرة الأولى التي يرفض فيها رئيس البرلمان رفع الحصانة عن أحد أعضائه فهو في كل حالة طلب لرفع الحصانة يحيل الأمر إلى المستشار القانوني بالمجلس الوطني والذي ينبغي أن يكون مرجعيته القانونية العليا ومحل ثقته، سيما وأنه يتمتع بخبرة واسعة في مختلف ضروب العمل العدلي تجاوزت الأربعين عاماً، ولو كان رئيس البرلمان يذعن لكل طلب لرفع الحصانة بدون التحقق من خلال إدارته القانونية فما الداعي أصلا لإسباغ الحصانة على البرلمانيين؟!

لم يقتنع مكتب المستشار القانوني بالبينات التي قُدمت له، وطلب بينات إضافية مقنعة، وهو ما لم يحدث حتى الآن، ولن يتردد رئيس البرلمان في الاستجابة لطلب النيابة متى ما اقتنعت الإدارة القانونية بالمجلس وقدمت له رأيها المؤيد لرفع الحصانة.

إذن، فإن الحملة على البرلمان لا محل لها من الإعراب، بل هي تجنٍّ لا يجوز بأي حال.

لكن دعونا نجرّد الأمر من الأهواء، ونحتكم إلى القانون، وإلى الحق والحقيقة بعد أن خاض الإعلام والأسافير في قضية البرلماني (رجل الأعمال) الذي نحن بصدده الآن، وتداول اسمه بل وأدانه وجرّمه قبل أن يُصدِر القضاء حكماً بإدانته بل قبل أن يعرض الأمر على القضاء.. نعم لقد حوكم بالفعل وأُدين وتردّد اسمه عبر الوسائط ربما من قبل ملايين الألسن قبل أن يجرّمه القضاء، فهل هذا من العدل، وهل يجوز ذلك شرعاً وقانوناً أم يعتبر من قبيل أحاديث الإفك التي قال الله فيها قولاً عظيماً؟

لو توافر للإعلام وثائق وبيّنات لما أنكرت عليه تناول الأمر أما أن يخوض أو يقفو ما ليس له به علم، فهذا فيه تجنٍّ وظلم.

لتبيين المنهج الذي ينبغي أن يتحاكم إليه الناس نزلت سورة النور صادعة بما ينبغي أن يسود المجتمع المسلم من بعد عن خوض في أحاديث الإفك وحاكية عما فعله من تداولوا ذلك القول: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) ولتحذر وتنذر وتحدد السلوك الذي ينبغي أن يتحلى به المجتمع المسلم في التعامل مع مثل هذه القضايا التي تُهدد السلام الاجتماعي: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

بالله عليكم كم تبلغ العقوبة المعنوية والاجتماعية التي وقعت على رجل الأعمال البرلماني الذي نحن بصدده الآن، وعلى أسرته وأطفاله وأهله وهل يعدلها السجن مهما استطالت فترته؟ وهل يحق للصحافة أن تذكر اسمه ابتداء وتخوض في تفاصيل ما قاله محاميه حول الدعاوى المقدّمة من النيابة بدون بينات ووثائق؟!

أقول هذا لأن هناك عدداً ممن سمّوا بالقطط السمان اعتُقلوا وأمضوا عدة أشهر وأطلق سراحهم بدون أن تتردد أسماؤهم وتملأ الصحافة والأسافير كما حدث لذلك البرلماني الذي جُرّم وأدين إعلامياً وسارت بسيرته الركبان لمجرد اتهام لم يعضّده حكم قضائي رغم أنف القاعدة القانونية الراسخة التي تقول: (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).

ولماذا لا يكف الإعلام عن ذكر أسماء المتهمين طالما أن الأمر لا يزال في طور التحرّي والنيابة مراعاة لاعتبارات كثيرة تتعلق بسمعتهم وأسرهم أو بمناخ الاستثمار الذي يتأثر كثيراً بتناول هذه القضايا في الإعلام؟!

وتحدث الناس عن (88) شركة يمتلكها وأهله ومعارفه بالرغم من أنه لو كان أجنبياً لزاد إعجابهم به ومدحهم له كلما زادت مبالغ استثماراته أو عدد شركاته!

ولستُ أدري أينبغي أن يُشاد به كونه استثمر في بلاده رغم مناخها الاستثماري الطارد أم تُشَن الحملات عليه وتُوجّه إليه الاتهامات؟!

انتظروا إلى أن يدان قضائياً ثم افعلوا به الأفاعيل أما الآن فلا .. رحمة به وبذويه ومعارفه وإقامة لمبادئ العدالة.

أخشى أن تتسبب الحملة على رجال الأعمال في هروب الاستثمارات ورؤوس الأموال الشحيحة أصلاً من السودان خاصة وأن حرمان الناس من سحب ودائعهم البنكية قد فعل فعله بالاقتصاد وبمناخ الاستثمار وجفّف السيولة البنكية، وهزّ الثقة في النظام المصرفي.

ليت الحرب على ما سُمّي بالقطط السمان تم بصورة عادية وفقاً للقانون بعيداً عن تدخل الأجهزة الأمنية إلا عند الضرورة التي تُمليها مهددات الأمن القومي.

ذكّرتني الحملة على (القطط السمان) بالتأميم الذي أعمله الشيوعيون على القطاع الخاص خلال الفترة الأولى من حكم الرئيس نميري، والذي أدى إلى إغلاق عدد كبير من الشركات والأعمال التجارية مما أحدث خراباً هائلاً بعد ذلك بالاقتصاد الوطني.

كتبتُ وتحدثتُ مراراً عن أن القطط السمان الحقيقية لا تقتصر على الأفراد الأثرياء إنما تتمثل في مراكز القوى التي تُجنب المال العام بعيداً عن أعيُن الجهات الرقابية المحجوبة عن رؤية تلك الوزارات والأجهزة وشركاتها التي تكتنز المال بل وتتبرع بجزء من فوائضه على الوزارات الخدمية والولايات الفقيرة ولو اخضعت مراكز القوى لولاية وزارة المالية لما حدث العجز الذي تشكو منه موازنة الدولة.

أقول في الختام إن البرلماني الذي أصابته حملة التشهير الظالمة قبل أن يُحكم عليه قضائياً ليس كثيرًا على المساءلة والمحاكمة ولكن بالعدل الذي يقتضي أن يُوفّر له سواء قبل رفع الحصانة أو بعدها إن ثبت أنه ارتكب ما ينبغي أن يُخضِعه للمساءلة القانونية والقضائية.

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة