انتصرت لحقوقي وانتصروا لمبادئهم
في اتصال هاتفي، حدد لي مجلس التعليم في شمال لندن، مدرسة وايتفيلد لتسجيل أكبر أولادي وكبرى بناتي فيها، وكانت المدرسة جبانة هايصة )الجبانة هي المقبرة ولا أعرف لماذا ربط المصريون بينها وبين الهيصة التي هي الجوطة، التي هي الاضطراب والفوضى، بينما سكان الجبانة لا يتكلمون ولا يتحركون(، وزرت المدرسة مع عيالي وحسبت أنها في شمال إفريقيا، وذات يوم كان ولدي يقلب الجريدة المحلية التي توزع مجانا على البيوت ووجد فيها ما يسمى »League Table ليق تيبل« وهي قائمة تضم ترتيبا للمدارس من حيث الأداء والانضباط والنتائج لنهاية العام الدراسي السابق، ووجد مدرسته )وايتفيلد( في ذيل القائمة في كل تلك المجالات، وأنها في الصدارة فقط في مجال معدّل تسيب وزوغان الطلاب من المدرسة truancy.
وعملت بنصيحة جاري المسلم التنزاني مكرم الذي قال لي ان من حق ولي الأمر أن يختار لعياله المدارس التي يلتحقون بها في النطاق الجغرافي للمنطقة التي يعيش فيها، فاتصلت بمجلس تعليم المنطقة وقلت لهم إنني أريد سحب ولدي وبنتي من مدرسة وايتفيلد، وتسجيلهما في مدرسة أخرى، فقالوا: مش ممكن ولا توجد مدرسة بها خانتان شاغرتان في المنطقة »حاليا«، فقلت لهم إنهم فرضوا علي وايتفيلد وحرموني من حق الاختيار!! وأحسست بالفخر وأنا أنطق بالجملة الأخيرة، فتلجلجوا ولكنهم قالوا إن البحث عن مدرسة بديلة قد يستغرق بعض الوقت و»خلي عيالك« في وايتفيلد إلى أن يظهر البديل، وهنا فجرت قنبلة زلزلت كيانهم وجعلتهم يلحسون كلامهم: شوفوا يا جماعة، نحن مسلمون ولا نقبل بأن يدرس ولد أو بنت في مدرسة مختلطة.. وكنت قبلها قد ذاكرت دروسي جيدا وعرفت اسماء المدارس التي لا يوجد بها اختلاط وعرفت أنها من المدارس المتفوقة، فطلبوا مني إمهالهم بضع دقائق ليدرسوا الخيارات المتاحة ويعودوا ليتصلوا بي، فأبلغتهم بأن الخيارات جاهزة: البنت في مدرسة كوين إليزابيث في هاي بارنيت، والولد في كرايست كولدج في فينشلي سنترال. فوعدوني بأنهم سيتصلون بإدارتي المدرستين ثم يعودون ليبلغوني بنتائج الاتصالات، وبعد دقائق معدودة بشروني بأن المدرستين وافقتا على قبول الولد والبنت وأخذوا مني اسماءهم وقالوا: خلاص من باكر كل واحد من عيالك يروح مدرسته الجديدة.
وما أن أبلغت زوجتي بأن الواد تم قبوله في مدرسة كرايست كولدج، حتى كادت عيناها تقفز خارجة من محجريها، وبادرتني بسؤال استنكاري: تسجل الولد في مدرسة بتاعت كنيسة.. مدرسة تحمل اسم المسيح »كرايست كولدج«؟ شرحت لها أنه لا يوجد تعليم ديني في المدارس البريطانية، وأن المدرسة تحمل اسم المسيح عليه السلام دون ان يعني ذلك أنها تعلم طلابها تعاليم المسيح، فكان أن أصرت على أن تذهب معي إلى المدرسة ليطمئن قلبها، وما أن دخلنا ردهات المدرسة حتى انشرح صدرها، فقد انتبه عدد من الطلاب ذوي الأصول الباكستانية إلى أن هيئة زوجتي تدل على أنها مسلمة، فبادروها بالتحية: السلام »أليكم«.. قلت لها: هسع صدقتيني؟ )هسع في العامية السودانية هي »ها الساعة« مضغوطة، وتعني الآن/ في الحال(.
وكان الطلاب المسلمون ذوو الأصول الباكستانية خير معين لولدي للاندماج في أجواء المدرسة، لدرجة أنهم استدرجوه إلى ممارسة لعبة الكريكيت، وهي من أسخف ما ابتكره الإنجليز، ولا تستحق لا مسمى لعبة ولا علاقة لها بالرياضة، وقد نقل البريطانيون فيروس الكريكيت إلى الهند وباكستان، والغريب في الأمر أنهم لم يفكروا قط في استدراج أهل السودان إلى الكريكيت رغم أنهم حكموا السودان أكثر من نصف قرن، كما لم ينقلوا الينا لعبة البلطجة المسماة »رغبي«، فلهم منا خالص الشكر والتقدير.
والشاهد هو أن النظام التعليمي في بريطانيا مبرأ من سخافات نظيره العربي الذي يتطلب تسجيل طفل في إطاره أطنانا من الأوراق المزدانة بالتوقيعات والأختام، وبعدها يقولون لك إن طفلك لن يتم تسجيله لأنه دون العمر المحدد بيومين وساعة وربع.
ذلك جانب من صدام الحضارات خضته في لندن كسبت فيه حقوقي وانتصرت فيه بريطانيا لمبادئها
زاوية غائمة
جعفـر عبـاس