الفقر والجهل واجهة تستتر وراءها العبودية في موريتانيا
لا تزال موريتانيا تعاني من تأثيرات قرون خلت حين كانت القبائل العربية تشتري العبيد كما تشتري الإبل والجياد وتتوارثها أبا عن جد.
لأسباب متعددة ظلت ممارسة الرق على أبناء شريحة “الحراطين” منتشرة خاصة في أوساط الأسر المتشددة لتقاليدها القديمة والتي ظلت إلى وقت قريب تملك جوارا وخدماً يقومون بخدمتها، وأيضا في المناطق النائية البعيدة عن مراقبة السلطات وعن نشاط الجمعيات والحركات الحقوقية، حيث كانت بعض الأسر تستغل حاجة عبيدها السابقين للعمل من أجل إرغامهم على “أعمال سخرة” في مجال الزراعة والرعي.
ولم تستطع الحكومات المتعاقبة على البلاد القضاء على العبودية بشكل كامل حيث لازالت هناك حالات تثار من حين لآخر عن طريق المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام، وتكشف عن فظاعة ما يرتكب بحق شباب ونساء وأطفال عانوا من التعذيب والاستغلال والاضطهاد على يد “أسيادهم” السابقين.
عبودية تحت ستار
ألغت موريتانيا الرق بمرسوم رئاسي عام 1981، وقام “عرب البيظان” (ذوو البشرة البيضاء) بتحرير عبيدهم “الحراطين” (اختصار لكلمتي الحر الطارئ)، غير أن غياب القوانين الرادعة وتأثير الثقافة والموروث الاجتماعي أدى الى استمرار الممارسات الاستعبادية في حياة الموريتانيين، حيث عاد أبناء العبيد إلى العمل لدى “اسيادهم” السابقين بسبب عجزهم عن تأمين لقمة عيشهم في غياب تام لأي دور للسلطات في دعم من يعانون من الأمية والفقر والتهميش.
وظلّ أبناء العبيد بين نارين الحرية وما تفرضه من مسؤولية، والعبودية وما تعنيه من ذلّ ومهانة، وأدى تجاهل السلطات لمعاناة العبيد في حياتهم الجديدة بعيدا عن أسر الرق، وتهميشها للمناطق التي تسكنها غالبيتهم والمعروفة محليا بقرى “أدوابه” إلى تكريس واقع القهر والعجز وامتهان الكرامة.
وفي عام 2007 وبضغط من المجتمع الدولي أصدرت الحكومة قانونا يجرم العبودية، وبعد خمس سنوات تمت إضافة ترسانة من القوانين لهذا القانون تهدف إلى حماية حقوق الإنسان والقضاء على مخلفات الاسترقاق وإنشاء محاكم خاصة بجرائم العبودية، وفي مطلع عام 2015 أصدرت الحكومة قانونا يصنف الجرائم المرتبطة بالاسترقاق كجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.
وحاليا يعمل أغلب أبناء العبيد السابقين حمالين وفي الخدمة المنزلية أو الرعي والزراعة ولا يتقاضون ما يكفي لتأمين حياة كريمة تحمي عوائلهم من اشكال العبودية المعاصرة التي تغذيها الثقافة الشعبية ويشجع عليها جشع ارباب العمل وضعف قوانين تشغيل اليد العاملة وسلبية الدولة، حتى البرامج الاجتماعية والاقتصادية القليلة التي خصصت لصالح الفئات المتضررة من مخلفات الاسترقاق لم تكن كافية لتغيير واقع سنوات من التهميش والاضطهاد.
عبيد القرن الواحد والعشرين
عاشت شادة بنت امبيريك (38 عاما) معظم حياتها جارية لأسرة في منطقة “لمغيطي” (600 كيلومتر شمال نواكشوط) عملت بدون أجر خادمة في منزل أسيادها وراعية للغنم في صغرها وللإبل حين اشتد عودها وأصبحت قادرة على السيطرة على أعداد كبيرة من الإبل والتنقل لوحدها في الصحراء الشاسعة.
وتقول شادة “رب الأسرة اشترى والدتي منتصف السبعينات بقطعة من الابل (خمسة) وأصبح حسب العرف يمتلك كل ما تضعه من رحمها، فباع ثلاثة من أخوتي وبقيت أنا وشقيقتي معه نعمل في المنزل ونرعى الإبل ونجلب المياه من البئر”.
عانت شادة من التعذيب الجسدي والاذلال والحرمان من الحقوق، وتقول “حين كان يتقدم أحد لخطبني كان السيد يرفض ويختلق المشاكل ويدعي أنه لا يحق لنا الزواج وتكوين أسرة… وبعد سنوات من الحرمان تزوجت من أحد أبناء شريحتي واستمرت حياتي مع العبودية التي انتقل تأثيرها لأبنائي وفقدت طفلين بعد أن منعني من رعايتهما بداعي أن العمل أهم… ولاحقا قام بتوزيع أبنائي على عائلته ومنح إحدى بناتي لأخته والثانية لأبنه ليصبحن عبيدا لهم”.
وبعد أن حرمت من أبناءها بقيت شادة مرغمة مع “سيدها” في بادية شمال موريتانيا ترعى الإبل وفي المساء تتولى الطبخ وخدمة أسيادها، ورغم العزلة التي أحيطت بها وصلت قضية شادة الى منظمة “نجدة العبيد” التي قامت بتقديم شكوى إلى السلطات لتحرير شادة وأطفالها، فحصلت شادة على حرية عام 2011 وهي اليوم تعيش مع أبناءها وأحفادها في أحد الأحياء الفقيرة في نواكشوط تبيع مناديل وحلوى لتأمين لقمة عيشها.
من ضحايا العبودية الطفل محمود مجهول النسب، عانت والدته من العبودية ومن أعرافها التي تعطي لرجال العائلة الحق في استغلال الجارية جنسيا، بعضهم يعترف بأبوته لابناءها وآخرون يرفضون ذلك ليبقى الأبناء ضحية هذا الإرث الثقيل.
يقول محمود “أنا لا ادرس.. أعيش مع والدتي ولا أعرف أبي”، حالة محمود هي واحدة من بين مئات الحالات الناتجة عن الاستغلال الجنسي للجواري، فالجهل والعزلة التي تفرض على العبيد في البوادي والاعتقاد بأن العبودية هي جزء من النظام الطبيعي وأن عليهم القبول باستغلالهم جنسيا، أدى الى انتشار ظاهرة مجهولي النسب من أبناء العبيد.
وتحول المعتقدات والفهم السيئ للدين دون القضاء على ظاهرة استغلال المستعبدات جنسيا، ما دفع فقهاء موريتانيا إلى إصدار فتوى عام 2015 اعتبرت أن جميع اشكال الاسترقاق محرمة شرعا، ويواجه علماء الدين انتقادات كبيرة من منظمات حقوقية بسبب مواقفهم السابقة من ظاهرة الاسترقاق التي ترى المنظمات أنها مسؤولة عن تنامي الاستعباد وبقائه بشكله الحالي.
وفي عام 2012 أثارت حركة “ايرا” المدافعة عن حقوق أبناء الأرقاء، جدلا كبيرا في البلاد حين قام رئيسها بيرام ولد اعبيدي بحرق بعض كتب الفقه المالكي التي قال إنها تتضمن تشجيعا وحثا واضحا على ممارسة العبودية وتعيق جهود استئصالها.
وتطلق الحكومة من فترة لأخرى حملات توعية وتحسيس لصالح الأشخاص المتضررين من مخلفات العبودية لاطلاعهم على حقوقهم وواجباتهم، وحثهم على الإبلاغ عن أي حالة عبودية واستغلال في القرى والأرياف والمناطق المعزولة.
استغلال جنسي
تعد النساء الأكثر معاناة من العبودية حيث يتم احتجازهن واغتصابهن ومنعهن من الزواج وتوزيع أبنائهن على العائلة لمنعهن من الهروب، أما الرجال فغالبا ما يتمكنون من الفرار في سن المراهقة أو عند البلوغ، لكن سنوات الاستعباد التي عاشوها تكون أقسى بسبب الأعمال الموكلة اليهم والتعذيب الذي يتعرضون له، خاصة إذا حاولوا الفرار.
من بين هؤلاء معطى الله ولد امبيريك (35 عاما) الذي عاش سنوات شبابه مملوكا لأسرة في الشمال الموريتاني، واستطاع الفرار من أسْره ولجأ إلى المنظمات الحقوقية في العاصمة لإنقاذ والديه وأخواته من أسر العبودية.
ويقول “كنت مكلفا برعي الإبل وحفر الآبار.. وعانيت من ظروف سيئة وتعرضت للتعذيب والضرب المبرح بالسياط ولدي إصابة في عيني جراء التعذيب الذي تعرضت له”، ويضيف “كانت أقسى اللحظات التي عشتها في الأسر حين قام السيد الذي يمتلكنا بضرب والدي أمامي.. وأيضا حين تم اغتصاب أخواتي من طرف أبناء السيد”.
لازالت حياة الرق تشكل كابوسا بالنسبة لمعطى الله خاصة حين يتذكر معاناة أخواته، يقول معطى الله ” كانوا يغتصبون أختي الكبرى حين تكون في مهمة رعي بعيدا عن المنزل وقد أنجبت خمسة أبناء من صلبهم رفضوا الاعتراف بهم فزوجوها براع فقير لتبقى أسيرة لديهم.. والآن أبناؤها ليست لديهم شهادات ميلاد، ورغم بشرتهم البيضاء وشبههم الكبير بأبناء السيد إلا أن الأسرة ترفض الاعتراف بهم وحتى الحديث في هذه القضية”.
منذ أن أصبح في الخامسة عشر من عمره أصبحت فكرة الفرار تراوده، وتريث إلى أن وجد الفرصة المناسبة للفرار دون، ويقول “حاولت أن لا يكتشف احد أمري حيث أن الذين تكتشف محاولة هروبهم يقيدون وتوضع فوقهم البضائع في رحلة العودة بهم إلى البادية والكثير منهم قضى جراء ذلك.. فاخترت الفرار مع عسكريين قصدوني وسط الصحراء لدلهم على مكان إقامة إحدى الأسر، وطلبت منهم مساعدتي على الفرار، وبعد ان أرجعت الإبل إلى مرعاها الرئيسي قرب منزل العائلة التي تستعبدني، غادرت مع العسكريين والتحق بنا السيد وحاول ارجاعي للبيت والضغط على العسكريين بالقول أني يتيم تكفل بي منذ صغري.. ورفضت كل محاولاته إرضائي وأكدت للعسكريين أنه يستعبدوني ويضربون والدي وأني لست يتيما بل ضحية استعباد أرعى الإبل دون مقابل”.
تحرر معطى الله عام 2007 وبدأت معركة تحرير أخواته وأبنائهن، أما والداه فقد سمح لهم “السيد” بالمغادرة بعد أن تقدم بهما العمر وباتتا عالتين عليه، يقول معطى الله “حين قدمت شكوى لم تعرها السلطات أي اهتمام فاستنجدت بالمنظمات الحقوقية التي أرغمت السلطات على التحقيق وكانت نتيجته أن أخواتي لا توجدان في الأراضي الموريتانية”.
استغرق بحث معطى الله عن أخواته خمس سنوات، يقول “كانت الشرطة تدعي أنهم في مالي أو في الصحراء الغربية.. سافرت للصحراء والتقيت بالسيد الذي كان يستعبدنا لكنه رفض الاعتراف بوجودهم معه كما رفضت السلطات في الصحراء الغربية التصريح بوجودهم على أرضها، وعدت إلى موريتانيا بعد الكثير من الإجراءات وضغط كبير من المنظمات الحقوقية تحركت السلطات من جديد وبدأنا في البحث عنهم أياما في الصحراء ووجدنهم موزعين بين أفراد العائلة التي كانت تستعبدنا”.
تم تقديم أفراد من العائلة التي كانت تستعبد أخوات معطى الله وابنائهم للمحاكمة لكن لم يصدر أي حكم إدانة ضدهم.
يعيش معطى الله الآن مع أخواته وأبنائهن بعد أن أصبحوا أحراراً، “أعمل ساعيا في منظمة نجدة العبيد وأخواتي يعملن في خياطة الملابس.. الدخل قليل لكن الحرية يساوي الكثير.. ونحاول الآن التغلب على المشاكل التي واجهناها هي الأوراق المدنية للأطفال”.
محاكم الرق
رغم أن السلطات الموريتانية ترفض الاعتراف بوجود الرق، لكنها قامت خلال السنتين الأخيرتين بانشاء محاكم خاصة بجرائم الرق، ولازالت هناك صعوبات تعيق عمل هذه المحاكم وتطبيق قوانينها في الصحراء الشاسعة والمناطق النائية، خاصة أن المتهمين دائما من أصحاب السلطة والنفوذ.
وأصدرت هذه المحاكم حتى الآن ثلاثة احكام قضائية تتضمن السجن والغرامة المالية على متهمين باستعباد أسر من شريحة “الحراطين” بمناطق النعمة وازويرات ونواذيبو، إرغام أفرادها على العمل في القرى البعيدة كرعاة للإبل وخدم المنازل.
ويطالب الضحايا الذين تقدموا بشكوى لهذه المحاكم بتعويضهم عن الضرر الذي لحق بهم خلال سنوات استعبادهم والتي تم خلالها ارغامهم على الرعي وأعمال السخرة.
ومن بين هؤلاء عبده ولد محمود (24 عاما) الذي كان يأمل أن تقر له المحكمة تعويضا ماليا مناسبا لما عانى منه يساعده على بناء حياة جديدة بعيدا أعمال متدنية لا يمارسها إلا أبناء العبيد في موريتانيا، ويقول “محاكم خاصة بالرق لا يخصص لنا تعويضا.. وهذا لا يناسب الضحايا الذين يعانون من الجهل وضعف التكوين ويواجهون واقعا صعبا بعد تحريرهم… يجب الاعتناء بالحراطين ودعمهم لضمان عدم رجوعهم لحياة العبودية أو تراجعهم عن اتهامهم لمرتكبي جرائم العبودية”.
تنقل عبده بين مجموعة من المهن منذ تحريره قبل عشر سنوات، والآن هو ينقل القمامة بعربته المتواضعة ويتلقى مساعدات وعطايا من سكان الحي الذي ينظف شوارعه، ويعمل غالبية أبناء العبيد السابقين في الخدمة المنزلية والرعي والزراعة ويتلقون أجور متدنية للغاية.
ويقول عبده “أستأجر غرفة مشتركة مع أصدقائي أما والدتي وأخوتي الصغار فيعيشون في قرى ادوابه” قرى صغيرة يعيش فيها العبيد السابقون.
وعن ذكرياته عن سنوات الاستعباد يقول عبده “كنت صغيرا.. لكني أتذكر جيدا ما كان يقوله رب الأسرة التي استعبدتنا من أننا ملكه وعلينا اطاعة أوامره مهما كانت.. لأنه من علية القوم وطبقته الاجتماعية تسمح له بان يتحكم في عبيده”.
ولا تنظر الغالبية العربية (السكان البيض أو البيظان كما يطلقون على أنفسهم) بعين الرضى لانشاء محاكم خاصة بجرائم الرق، وتعتبر أنها تسيء لسمعة البلد وتهدد التعايش السلمي فيه، وتطالب الدولة بتحسين وضعية العبيد السابقين وانتشالهم من واقع البؤس والفقر الذي يدفعهم إلى العودة إلى وضعية الاسترقاق.
وتطغى على المجتمع الموريتاني تراتبية اجتماعية تصنف القبائل والعشائر إلى صنفين “العرب” الذين اشتهروا بقيادة الحروب وحمل السلاح، و”الزوايا” وهم أهل علم وورع، إضافة إلى التابعين من رعاة وصناع وعبيد.
جهود المنظمات
تقدر نسبة “الحراطين” في المجتمع الموريتاني بنحو 20 %، لكن منظمات حقوقية تؤكد أن نسبتهم تجاوزت 42%، وبسبب تأثير العبودية على بنية المجتمع وسياسة الدولة، فان أبناء العبيد لا يتم توظيفهم في مناصب قيادية في الدولة، إلا في حالات نادرة.
ولتحسين وضعية أبناء العبيد أنشأت الدولة مؤسسة “التضامن” لكنها إلى الآن لم تنجح في مسعاها، ويقول رئيس منظمة “نجدة العبيد” بوبكر ولد مسعود في حديثه لوكالة “سبوتنيك” “مؤسسة التضامن لم تحقق شيئا للعبيد السابقين ولم تساهم في مشروع الجمعيات الحقوقية من أجل تحقيق الانعتاق والمساواة والكرامة للأرقاء”.
ويقول بوبكر ولد مسعود الذي أنشأت منظمة “نجدة العبيد” عام 1995 أن “العبودية مازالت متجذرة في المجتمع الموريتاني لأسباب مختلفة أهمها انعدام الإرادة لدى الدولة لحل هذه المعضلة”.
ويشير إلى أن منظمته هي الأولى التي ناضلت من أجل حقوق العبيد وسعت إلى تحريرهم وأسست مراكز لنجدة العبيد بعيدا عن الاستغلال الإعلامي، ويضيف “حاليا العبودية موجودة في موريتانيا بشكلها العصري والتقليدي وقضيتها مطروحة لم يهم أمر هذا البلد”.
ويضيف “نحن نعمل على التحقيق في أية قضية تصلنا بل ونبحث بعيدا في القرى عن أية حالة استعباد لأننا إذا تقدمنا للقضاء بقضية غير حقيقية تتم مقاضاتنا بتهمة البلاغ الكاذب”.
وتقدم منظمة “نجدة العبيد” مساعدات عينية للعبيد السابقين من أجل بدء حياة جديدة وتقوم بتدريب وتكوين الشباب والنساء في مهن الحدادة والخياطة.
سبوتنك