السوداني الذي حكم جمهورية البوسنة
دائما كان التاريخ ظالما وغير منصف فهو يمجد في شخصيات ويشيطن شخصيات أخرى ومن عادة التاريخ أنه يكتفي دوما بالكتابة عن إنجازات الرجل الأول وتاريخه مع إغفال كامل لتاريخ مساعديه.
فنحن مثلا نعرف عن دور صلاح الدين في تحرير بيت المقدس ونتجاهل دور عمه البطل أسد الدين شيركوه والذي كان مربيا لمحرر القدس من نعومة أظفاره، ونعرف بطولات السلطان محمد الفاتح ونتجاهل دور أستاذه آق شمس الدين بن حمزة الذي غرس فيه الرغبة في فتح القسطنطينة وتحقيق البشارة النبوية وأن يكون القائد الذي تفتح على يديه المدينة البخراء.
عندما نتكلم عن القضية البوسنية فإننا نتذكر مباشرة القائد الفذ علي عزت بيغوفيتش كونه أول من حمل لواء القضية البوسنية واستطاع انتزاع استقلال دولة مسلمة في عمق أوروبا ولكننا ننسى تضحيات رجال ساهموا معه في هذا الإنجاز الكبير ومنهم الدكتور الفاتح علي حسنين (صورته ضمن التصميم الرئيسي أعلاه) وكان مستشار الرئيس بيغوفيتش ورئيسا للبوسنة أثناء فترة حصار بيغوفيتش من قبل المليشيات الصربية.
استطاع الدكتور الفاتح حسنين تحويل علي عزت بيغوفيتش من مسلم مهموم بقضية وطنه المحدود جغرافيا إلى إسلامي مهموم بقضايا الأمة
تبدأ قصة الدكتور الفاتح مع القضية البوسنية في الستينيات من القرن العشرين حين وفد على يوغسلافيا الشيوعية مجموعة من الطلاب السودانيين قدموا لدراسة الطب وكانوا من ذوي الميول الإسلامية ومن المؤيدين لجبهة الميثاق الإسلامي في السودان (الإخوان المسلمون في السودان).
وكان هؤلاء الشباب هم الفاتح حسنين والنور سوار الذهب والناجي عكاشة ومحمد الضو محمد. ونتيجة لذلك فيما يبدو ولأن يوغسلافيا كانت شيوعية مادية فإنهم تكتلوا مع بعضهم فيما يشبه الجمعية الصغيرة لمدارسة القرآن والفكر الإسلامي، ولكن هذه المجموعة الشبابية طمعت على ما يبدو في إحياء النزعة الإسلامية عند المسلمين في يوغسلافيا حيث بدا لهم أن المسلمين هناك بدؤوا في فقدان هويتهم الإٍسلامية تحت الضغط الشيوعي فقرروا الاتصال بالجمعيات الإٍسلامية اليوغسلافية من أجل التنسيق، ومن تلك الجمعيات كانت جمعية الشباب المسلم التي كان يقودها البروفيسور قاسم دوبراجا الذي كان يعمل مديرا لمكتبة الغازي خسروبيكوفيتش وفي سراييفو في منطقة تسمى “حمام بار”.
كان اللقاء الأول بين مندوب المجموعة الإسلامية السودانية الفاتح علي حسنين مع مندوب المجموعة اليوغسلافية الأستاذ علي عزت بيغوفيتش واتفقا على تنسيق المجموعات الإسلامية مع بعضها دون أن تعرف أي مجموعة عن الأخرى سوى مسؤولها، وتوافق الرجلان (الفاتح حسنين وعلي عزت بيغوفيتش) على كتابة بيان مشترك سموه البيان الإسلامي ويبدو أنه من اسمه كان ردا على البيان الشيوعي الذي صاغه كارل ماركس وفردريك إنغلز.
لقد كان البيان الإسلامي هو دستور وتوجه التكتل الإسلامي في البوسنة وإعلان تشكيل للحركة الإٍسلامية البوسنية التي اتفق على تسميتها بالجماعة الإسلامية اليوغسلافية. وقد تمكن الدكتور الفاتح حسنين من تحويل علي عزت بيغوفيتش من مسلم مهموم بقضية وطنه المحدود جغرافيا إلى إسلامي مهموم بقضايا الأمة، ورغم هذا الأمر لم يكن للأستاذ بيغوفيتش أي ارتباط تنظيمي بجماعة الإخوان المسلمين.
في حمام بار اتفق الدكتور الفاتح حسنين مع بيغوفيتش على الخطوط العريضة لتنظيم الجماعة الإسلامية اليوغسلافية، ولتمويل التنظيم اتفقوا على شراء سيارة تاكسي.
وكان من أول نشاطات الجماعة الإسلامية اليوغسلافية ترجمة كتب إسلامية من اللغة العربية إلى اللغة البوسنية، فتُرجم كتاب “المستقبل لهذا الدين” وكتاب “هذا الدين” لسيد قطب، وكتاب “شبهات حول الإسلام” و”المدخل للإسلام” للشيخ محمد حميد الله، وكتابي “الأربعين النووية” و”رياض الصالحين” للإمام يحيى بن شرف النووي. وقد ساهمت هذه الكتب في انطلاق صحوة إسلامية كبرى في البوسنة حيث اختلط الديني بالقومي فعمرت المساجد بعد أن هجرت وانتشرت فكرة ترجمة الكتب الإسلامية من العربية إلى البوسنية مما ساهم في إيقاظ الوعي الديني والقومي للبوسنيين المسلمين.
ولكتابي سيد قطب “المستقبل لهذا الدين” و”هذا الدين” وطبعتهما في البوسنة قصة طريفة يحكيها الدكتور الفاتح علي حسنين في مذكراته وهي أن الأستاذ بيغوفتش فرغ من ترجمة الكتابين هو وبنتاه ليلى وسابينا، ليواجهوا مشكلة من يقبل أن يطبع هذين الكتابين في عقر دار دولة شيوعية.
فتصدى لهذه المشكلة الدكتور الفاتح حسنين باعتباره طالبا أجنبيا، وطاف على مديري مطابع بلغراد لعل أحدهم يقتنع بطباعة الكتابين، فما أن يقرأ مديرو المطابع مقدمة الكتابيين والتي كتب فيها سيد قطب أن الإسلام هو أفضل وخاتم الديانات وأن هدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو خير الهدي؛ حتى يعتذروا بأن طباعة مثل هذه الكتب ممنوع في البلاد. ولكن أحدهم قال للدكتور الفاتح أنا موافق على طباعة هذه الكتب بشرط أن أحصل على توقيع بالموافقة من قبل وزير الداخلية والأمن اليوغسلافيين، بالإضافة إلى موافقة من قبل السفارة السودانية في بلغراد.
فأجابه دكتور الفاتح إن الحصول على مثل هذه التوقيعات هو في منتهى اليسر، وخرج من المطبعة حزينا إلى بيته، وفي الطريق إلى منزله تذكر أن جاره في الحي هو قيادي في الحزب الشيوعي الحاكم وأنه يعمل رئيسا للعمال في مطبعة حكومية فذهب إليه في زيارة لمنزله وهناك أطلعه على الكتابين وطلب منه أن يتفحص الكتابين، ثم قام بحركة ذكية هي أن ألقى عامداً بظرف يحمله مليء بالدولارات أمامه (وكانت الدولارات هي تبرعات محسنين من خارج يوغسلافيا لطباعة الكتب) وعندما شاهد الدولارات جحظت عيناه فقال له ما هذه الدولارات الكثيرة التي تحملها؟
فقال له إنها مصاريفي الشهرية التي يرسلها لي والدي
فسأله وماذا يعمل والدك؟
فقال والدي لا يعمل ولكنه صديق للسفير الأمريكي في الخرطوم، وعندما كان السفير الأمريكي في زيارة لمنزلنا في أحد الأيام وكان يتناولان القهوة في حديقة منزلنا نبه والدي السفير أن هناك رائحة غريبة تنبعث من بعض أركان حديقتنا، ولكن السفير الأمريكي بلغ والدي أن هذه الرائحة هي رائحة النفط.
ثم أحضر السفير الأمريكي شركة للتنقيب عن النفط في منزلنا واستطاع استخراج كميات تجارية من النفط وأصبح يرسل لوالدي حقائب مليئة بالدولارات شهريا مقابل النفط.
ثم التفت الدكتور الفاتح إلى جاره الشيوعي اليوغسلافي وقال له: هذا الظرف المليء بالدولارات هو لك إن استطعت أن تطبع لي هذه الكتب في المطبعة الحكومية التي تعمل بها، فوافق اليوغسلافي لكن بشرط تسليم الدولارات في البداية، ولكن الدكتور الفاتح بلغه أن شرطه تعجيزي وأنه قام بنفسه بترجمة هذا الكتاب وأنه جاد وسيرسل الكتاب إلى من يقوم بطبعه دون شروط.
عندها وافق الشيوعي اليوغسلافي على شرط أن لا يكتب اسم سيد قطب لأنه في يوغسلافيا يعتبر إرهابيا، فوافق الدكتور الفاتح وتحايلوا بكتابة الأحرف الأولى من اسمه وأن يكتب بخط عريض اسم الدكتور الفاتح كمترجم لهذا الكتاب وأنه طبع في السودان. فسأله اليوغسلافي عن اللون الذي يفترض أن تخرج به الطبعة فقال الدكتور الفاتح: هذا السؤال خاطئ نحن اشتراكيون ماركسيون ولا لون لنا إلا اللون الأحمر فاطبع الكتاب بغلاف أحمر قان.
بقلم : وائل علي – كاتب سوداني
الجزيرة.