جعفر عباس

الرشاقة الإجبارية


اشتركت ذات مرة في برنامج حواري حول قضايا السودان، في قناة بي بي سي العربية، التي كنت أعمل فيها، وكان معي في الاستوديو وزير الخارجية السوداني الأسبق الدكتور منصور خالد، وبعد انتهاء الحلقة توقعت مكالمات الإشادة والثناء، والأشياء التي تجعل الرأس يصاب بالاستسقاء، ولكن المكالمة الوحيدة التي أتتني كانت من صديق خليجي: جعفر وش فيك؟ عسى ما شر؟ فسألته بدوري عما يجعله يفترض أن حالتي »كرب وبائسة« وأنني أعاني من علة ما؟ مع أننا لم نلتق لقرابة نحو سنة، فقال إنه رآني على الشاشة ولم يستطع التعرف عليّ إلا من صوتي وطريقتي في الكلام، ثم أضاف: حالتك صج صعبة وبائسة وباين كنك ما أكلت من سنة، ولو المصاريف قاصرة عندك ترا حنا إخوان، وطلباتك ع الخشم. وعدت إلى البيت وطلعت على الميزان، واكتشفت أنني وخلال أقل من سنة، فقدت نحو 14 كيلوجراما من سنامي الذي كونته في الخليج، لأعيش عليه في شيخوختي إذا مد الله في أيامي.
لم أخسر تلك الكيلوجرامات بسبب سوء التغذية، فرغم سوء حالتي المادية بالنظر إلى أن جماعة الضرائب كانوا يسطون على ربع راتبي الشهري، فقد كانت لدي مدخرات أتيت بها إلى بريطانيا، وكنت أغرف منها بانتظام لتوفير مستوى معقول من المعيشة لعيالي الأربعة الذين عاشوا مرفهين نسبيا معظم سنوات عمرهم في قطر والإمارات، بل كانت تلك الخسارة في الوزن )إذا جازت تسميتها بالخسارة( ناجمة عن »الحركة«، فنمط الحياة في الدول الغربية عموما يتطلب منك أن تستخدم رجليك لقطع مسافات طويلة كي تنجز هذا الأمر أو ذاك، وحتى إذا كنت تملك فيراري أو رولز رويس وعشت في مدينة مثل لندن، فإنك تكون مرغما على السير لمئات الأمتار يوميا- على الأقل من وإلى السيارة.

وأتحدى كل من يعرفني أو لا يعرفني، لو وجد أو سمع شخصا يصفني بالكسل، فبحكم التنشئة فإنني مثل أبناء وبنات جيلي، لا أوكل مهمة استطيع القيام بها بنفسي إلى أحد، وحتى في البيت، لست من نوع الآباء من فئة »يا ولد هات الريموت.. يا بنت جيبي القميص التركواز )قاتلني الله إن كنت أعرف ما هو التركواز(، فأنا من جيل أرغمه النظام التعليمي والتربوي السائد في السودان، على عهدنا بكراسي الدراسة، على العيش خارج بيت العائلة، أي في محيط المدرسة في سكن داخلي وعمري نحو 11 سنة، ومثل معظم أبناء وبنات جيلي فقد مارست غسل وكي الملابس وترقيعها وتثبيت »الزراير«. باختصار »الاعتماد على النفس«، وحتى بعد دخول الحياة العملية وقبل الزواج كنت أغسل وأكوي ملابسي بل وأمارس بعض أنواع الطبخ السهلة، ومازلت أمارس بعض المهام المنزلية البسيطة )إذا غابت الخادمة(، وفي نفس الوقت فإنني لا أحب الانتظار والتلكؤ سواء في المطارات أو العيادات أو غيرها، وبالتالي، كنت في لندن أقطع مسافات طويلة سيرا على الأقدام، عوضا عن تضييع دقائق ثمينة في انتظار حافلة ما.

وأكثر ما أثار إعجابي بزوجتي خلال فترة إقامتنا في لندن، أنها كانت تمضي عدة ساعات مشيا على القدمين وخاصة خلال عطلات نهاية الأسبوع مصطحبة العيال في جولات في أنحاء المدينة، ولا أسألها إلى يومنا هذا »لماذا تتدلع في الدوحة وأبو ظبي والخرطوم« وتطالب بسيارة لأي مشوار مسافته أكثر من 300 متر؟ لأنني أعرف أن الطقس في السودان والخليج لا يسمح بالسير على القدمين لمسافات طويلة، والشوارع في كلا البلدين كما هو الحال في معظم الدول العربية مصممة دون أي اعتبار لوجود فئة اسمها »المشاة« أو فئة تحب المشي )في العاصمة السعودية الرياض شارع يسميه الناس شارع الحوامل، لأنه المكان الوحيد الذي تستطيع ان تمشي فيه الحامل لمسافة طويلة من دون ان تعترض طريقها سيارة، وشيئا فشيئا صار الشارع يجتذب الرجال الذي يريدون التخلص من »الحمل« الزائد(.

زاوية غائمة – جعفر عباس