وضاقت الزاوية وصارت (حادة)
كما ذكرت مرارا في هذه السلسلة من المقالات، فلولا أنني ذهبت إلى لندن ومعي مدخرات من حر مالي، لعشت مع عائلتي حياة كلها بهدلة ومرمطة، لأن أكثر من نصف راتبي من بي بي سي كان »يروح« في أجرة البيت، ولم تكن طبيعة وساعات العمل تسمح لي بمصدر دخل إضافي من مجال عملت فيه طويلا كالترجمة، وذات يوم أعطيت لزميلي في بي بي سي حسن أبو العلا نسخة من كتابي الأول »زوايا منفرجة«، بعد أن استحسن أسلوب كتابتي للتقارير الخفيفة، وأبو العلا -رحمه الله- من جيل المحاربين القدامى في إذاعة بي بي سي العربية »هنا لندن«، وفي اليوم التالي صاح بمجرد أن التقى بي: يا ابن الإيه )هكذا عرفتم أنه مصري، وعمل لاحقا مستشارا لوزير الثقافة المصري(. إيه ده؟ ملوّحا بالكتاب في يده، ثم قال لي إن بي بي سي بصدد إعادة إصدار مجلتها العربية باسم جديد هو »المشاهد« وأنه سيتولى رئاسة تحرير المجلة، ويريد مني أن أكون أول صاحب عمود ثابت فيها.. ولولا أنني أكره الرقص الشرقي لأنه يتألف من حركات عمودية تعبر عن رغبات أفقية لا يجوز الجهر بها، لرقصت »عشرة بلدي« من فرط فرحي بما سمعت: أوفر تايم بالاسترليني.
وهكذا ولدت »زاوية حادة« على صفحات مجلة المشاهد التي أصدرتها بي بي سي مع شريك تجاري، ولكن أحوال المجلة الإدارية كانت مضطربة، فكل بضعة أشهر كان يتم تغيير رئيس ومدير التحرير، بل إن ملكيتها انتقلت من يد إلى أخرى ثلاث مرات في عامين، وذات يوم تلقيت اتصالا هاتفيا من مدير جديد للتحرير طلب مني أن يكون مقالي التالي عن موضوع معين، فقلت له إنه ليس من حق أي جهة أن تملي علي ماذا وكيف أكتب، وإن كان من حقها أن ترفض بعض أو كل ما أكتب، وهذا موقف لم أتنازل عنه قط في مسيرتي ككاتب صحفي: ليس من حق المطبوعة التي أكتب فيها أن تملي علي »الموضوعات« أو تجري تعديلا وتغييرا فيما أكتب، من دون استشارتي، وإذا كان لدى المحرر تحفظ على شيء كتبته وتعذر الاتصال بي فمن حقه إلغاء المقال بأكمله، مع إدراكي طبعا أن هناك ضرورات تحريرية تستوجب أحيانا بتر أجزاء من المقالات لي ولغيري، من دون الإضرار بالمحتوى أو تحويره على نحو يُحسب على الكاتب، المهم أن صاحبنا قال إن لديه صلاحية إملاء »الموضوعات« على من يكتبون في المجلة، وإنني مطالب بالانصياع لتوجيهاته، فقلت له: داهية تاخدك وتاخد المجلة معك، وهكذا انتهت علاقتي بمجلة المشاهد التي صار اسمها لاحقا »المشاهد السياسي«.
وفور الداهية التي أبعدتني عن مجلة المشاهد صرت كاتبا أسبوعيا راتبا في »القدس العربي«، وكانت واسعة الانتشار في عدد من الدول العربية ومحظورة في عدد كبير منها، وسعدت ككل كاتب بظهور تعقيبات عديدة على ما أكتب في صفحة بريد القراء في الجريدة، وكتبت فيها ذات مرة مستنكرا اهتمام الصحف العربية اللندنية بوصول الراقصة فيفي عبده إلى لندن، وبعدها بيومين نشرت الجريدة تعقيبا مطولا لشخص يحمل صفة المستشار الإعلامي والثقافي والرياضي بالسفارة المصرية في لندن، ورددت عليه، وقلت فيما قلت: وا ضيعة مصر عندما يتبوأ نكرة منصبا بلقب طويل عريض وقامات مصر السامقة في الإعلام والثقافة تعاني من التهميش والملاحقة، وأنه لا يليق حتى بسفارة دولة كباريه مثل مونت كارلو أن تستكتب أحد أقطابها ليدافع عن رقاصة حتى لو زعمت أنها »الهرم الرابع« كما فعلت عطيات عبدالفتاح )هذا هو الاسم الأصلي لفيفي(.
وذات يوم أتاني اتصال من السفير السعودي في لندن والوزير السابق واللاحق غازي القصيبي رحمه الله: شوف يا حفيد عنتر، أنا أقنعت إدارة مجلة المجلة أنك تكتب فيها بانتظام، وهي اللي راح توصلك للقراء في كل الدول العربية، وهذا في حد ذاته عرض لا ينبغي أن يضيع من يدك.
زاوية غائمة
جعفر عبـــــاس