جعفر عباس

الموازنة بين الربح والخسارة


رغم أن حرمي وزوجتي وبعلتي وقرينتي وست هانمي ومدامي ونصفي الحلو، و»تمامة« نصف ديني، وأم عيالي اتفقنا على كره لندن، إلا أن العيش في #لندن مثل نقلة مهمة في حياة عيالي، وترك فيهم بصمات مازالوا يحملونها إلى يومنا هذا، وحتى ابنتي عبير التي كرهت لندن بسبب قلة أدب البنات في مدرستها )غير المختلطة( كسبت من لندن لغة إنجليزية أهلتها لتصبح أولى دفعتها في بكالوريوس التخصص في هذه اللغة، ونيل درجة الماجستير فيها من جامعة أسترالية وعمرها 23 سنة، و»بالجملة« فقد أفلت جميع عيالي من النظام التعليمي العربي القائم على التلقين الببغاوي، وعَنى ارتباطهم بالمنهج التعليمي البريطاني، أنه لم يكن أمامهم من سبيل في مرحلة التعليم العالي سوى الالتحاق بجامعات أجنبية تغرس في نفوس الدارسين حب البحث، وتكفل لهم حق النقاش مع أساتذتهم حول المناهج المقررة، والأهم من كل ذلك أن أيا منهم لم يتعرض لشتيمة تجعلني كأب أنتمي -رغما عني- إلى الحيوانات التي تمارس النباح، ولم يوصف أي من عيالي بأنه ينتمي إلى تلك الحيوانات التي يقال إنها تتعلم بالتكرار، رغم أن اثنين منهم ورثوا عني جينات صد الأرقام، وعلوم الرياضيات بصفة عامة.

ولكن التعليم الأجنبي قد يجعل الطلاب غرباء عن ثقافتهم الأصلية، ما لم ينتبه الوالدان إلى تعزيز الانتماء لتلك الثقافة، وقد جاهدت كثيرا كي يتقن عيالي اللغة العربية قراءة وكتابة )أكيد لم يواجهوا مشكلة قط في استخدامها للتخاطب الشفهي(، ولكن المشكلة التي واجهتني وتواجه حتى أولياء أمور الطلاب الذين يدرسون في المدارس العربية، هي »جفاف« منهج اللغة العربية المدرسي، بمعنى خلوِّه من التشويق، فلا يوجد عندنا أدب أطفال ولا مكتبة طفل، ولا توجد عندنا مجلات أطفال تجمع بين الإمتاع والتعليم، ويتم تنفير الطلاب في سن غضة من اللغة العربية بتدريسهم قواعد النحو بلا تدرج، فيجد الطفل نفسه حائرا بين اسم الإشارة واسم الموصول، وإلى يومنا هذا لا أعرف لماذا دخلت »كان وأخواتها« في خلاف مع »إن وأخواتها«، بحيث صارت كل مجموعة تدخل على المبتدأ والخبر وتفعل بهما عكس ما تفعله المجموعة الأخرى، ولو اتفقت المجموعتان لأعفانا مدرس اللغة العربية من حفظ »ككان أضحى ظل بات أمسى/ وهكذا أصبح صار ليس«.. بذمتكم ده كلام؟ كيف »أصبحت« صار، ليس؟ مع كامل تقديري للجهد المبدع الذي بذله ابن مالك لوضع قواعد اللغة العربية في قالب شعري يحمل اسم »الألفية«. يا جماعة، احترموا عقولنا لأن صار تقال عن الشيء الذي حصل و»خلص«، بينما ليس تستخدم للنفي. وأقول: يا جماعة »ما يصير«، ولكنني لا أستطيع أن أقول »ما يليس«.

ومن مضار المنهج البريطاني أنه يعلم التلميذ ما نسميه في السودان »اللداحة« وهي المحاججة والجدل والملاججة: )واي؟ لماذا/ ليش؟ ليه؟(، ذات مرة طلبت مني بنتي مروة في لندن أن أذهب بها إلى مدينة أولتون تاورز للألعاب وحسبت كلفة المواصلات وتذاكر الدخول لها ولإخوتها وقلت ما بدهاش، فإذا بها تقول: كل أسبوع الحكومة تعطيك مبلغا ماليا باسمي وما لم تأخذني إلى أولتون تاورز، فإنني سأتصل بوكالة حماية الطفولة، فقلت لها باسما اتصلي بها لو عثرت على رقم هاتفها، فإذا بها تبتسم في مكر وتخرج قصاصة وعليها اسم الوكالة والرقم، وعرفت أن المدرسة زودتهم بها ليستغيث العيال الذين يتعرضون للعنف المنزلي بالوكالة، ورغم علمي بأن المدرسة تفعل ذلك بحسن نية إلا أنه حز في نفسي أنهم زرعوا في عقل ابنتي معلومة بأنه بإمكانها تقديم شكوى ضد أحد أو كلا والديها.

سمعت بواقعة لا أجزم بصحتها، عن أب سوداني مقيم في بريطانيا يحمل جواز السفر المحروس بأسود الإمبراطورية، زجر ابنه عندما اخطأ في أمر ما وهدده بالضرب فاستغاث الولد بجماعة حماية الطفولة الذي أتوا وهددوا الأب بانتزاع الولد منه إذا اشتكى مجددا، وبعدها بشهور قليلة اصطحب الأب أسرته في زيارة للسودان وعند اجتياز جسر على النيل ألقى بجوازات السفر البريطانية في الماء، ثم التفت إلى ابنه ذاك وقال: اتحداك تغلط تاني، وتحاول الاتصال بجماعة »الحماية« يا ابن ال***.

زاوية غائمة – جعفر عباس