صلاح الدين عووضة

إنه من سليمان !!


*ثمة وجوهٌ تسقط من الذاكرة… خلال رحلة الحياة..

*فهي لا تحفر فيها أثرا… ولا تترك عندها انطباعا… ولا تدمغ عليها ذكرى..

*مجرد وجوه… مثل أشجار تشاهدها عبر نافذة قطار..

*حتى وإن كان من بين هذه الوجوه ما لازمك حقبةً من حياتك..

*ووجوه أخرى عكس ذلك… تبقى بالذاكرة ما بقي الإنسان سائراً في رحلته الدنيوية..

*ومن الوجوه التي علقت بذاكرتي وجه سليمان الصول..

*كان صول مدرستنا الثانوية العليا… وأحد ركائزها المهمة… في نظري..

*لم أره غاضباً… أو عابساً… أو مكشراً ؛ طوال فترة دراستي..

*وكان أول ما وُوجهنا به – لحظة ولوجنا المدرسة – (الكديت)… وعم سليمان..

*فهُرع الكثيرون منا لتسجيل أسمائهم… وهم فرحون..

*وعجبت أنا لفرحهم… ربما لحساسية من تلقائي سببها الانقلابات العسكرية..

*وتحديداً انقلاب (مايو) الذي تفتح وعيي عليه… صغيرا..

*فمنذ ذياك الزمان المُبكِر وبيني وبين النُظم العسكرية كافة ما صنع الحداد..

*لا لشيء إلا لأنها في حالة عداء دائم مع الحرية… أصل الدين..

*ولم يشذ عن هذه القاعدة نظام عسكري أبداً… في طول بلاد العالم الثالث وعرضها..

*ولكن سليمان (العسكري) كان ديمقراطياً معنا… لأبعد الحدود..

*ومن دلائل ليبراليته إنه كان يمقت الجلد ظلما… إذا ما كُلف به حيال طالب..

*فقد كان يتحرى أسباب تحويل (المذنب) إليه..

*فإن وجد عذراً لم يأخذ به الأستاذ – تعجلاً – لا ينفذ (أوامر) الجلد..

*وهو – للحقيقة – ما كان ينفذها مطلقاً… في كل الأحوال..

*فإن وجد الطالب مخطئاً أخذه إلى غرفة التنفيذ… ونصحه بعدم تكرار جرمه..

*ثم جلد حذاءه العسكري المسكين بالسوط… جلداً له فرقعة..

*ويطلب من الطالب – أثناء ذلك – أن يقول (آه) بصوت عالٍ… ويضحكان معاً..

*وقد كان أصلاً يضحك على الدوام… فيشيع البهجة بيننا..

*ولكنه في يوم ضحك كما لم نره يضحك من قبل… حتى دمعت عيناه الصغيرتان..

*وذلك حين ضحكت المدرسة كلها من عم (حشاش)… وعليه..

*فقد كانت الحصة لغة فرنسية… وطرق عمنا هذا باب الفصل ليعلمنا أمراً ما..

*فما أن رآه الأستاذ حتى سألنا بالفرنساوي (من هذا ؟!)..

*ونسي أن عمنا هذا أخلاقه (جزمة قديمة)… ولا يضحك أبداً… عكس عمنا الآخر..

*فأسمع الأستاذ – وإيانا – ما يُضحك….. ولا يُقال..

*وبلغ الكلام – ذواللكنة النوبية هذا – مسامع سليمان… فكاد يموت ضحكاً..

*وبعد سنوات من تركنا المدرسة أتاني صديق دراسة بجواب..

*وقال (إنه من سليمان)… ويحثنا فيه – من بعد السلام – على ألا (ننسى أياماً مضت)..

*ثم أشار إلى أول فقرة أعلاه وهو يتبسَّم….. بمغزى..

*وأضاف… (وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) !!!.

صلاح الدين عووضة
صحيفة الصيحة