منوعات

أين يقع الجانب المظلم من شخصيتك؟

غالبا ما تبدأ اللعبة باستمالة، يحاول شخص ما تعرّف إليك للتو أن يجذبك إليه بطريقة لطيفة، سوف يبدأ بالحديث عن مدى ذكائك، وأناقتك، وهدوئك في المواقف الصعبة. في الوقت نفسه سوف يحاول قدر إمكانه أن يبهرك بأي طريقة، وهو بارع في ذلك حقا. في أثناء ذلك كله سوف يدرس صفاتك، نقاط ضعفك وقوّتك، وما إن تبدأ بالتقرب منه وتقع تحت تأثيره حتّى تنقلب اللعبة شيئا فشيئا دون أن تدري، حيث يستمر في تحويل حياتك إلى درجة من درجات البؤس، سواء عبر خداعك والتلاعب بك في مواقف عدة والضغط على نقاط ضعفك التي كان قد تعلّمها جيدا، أو إيهامك بأن كل ما تفعل لا قيمة له، حتّى تصل في النهاية إلى مرحلة العجز المُكتسب، وهي حالة يتعلم الإنسان خلالها أنه لا حول له ولا قوة أثناء المواقف التي تتضمن مثيرات مؤلمة، لأنه تعود -من فرط الهزائم وتكرارها- أن الفشل هو، كما يبدو، نهاية محتومة، فيتخلّى عن المحاولة من الأساس.

إن حدث وتعرضت في حياتك لإحدى هذه الشخصيات المؤلمة، فإنه يبدو أنك قد وقعت فريسة لأحد السيكوباتيين (1Psychopathy)، في الحقيقة لقد استطاعت هوليوود أن تشوّه صورة أصحاب هذا النوع من اضطراب الشخصية فتظهرهم كمجانين، أو مهووسين، أو قتلة حادي الطباع، أو كآكلي لحوم البشر، أما في الواقع فإن الشخصية السيكوباتية هي أحد فروع اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، وتتضمن اجتماع ثلاث صفات أساسية في أحد الأشخاص بدرجة تتخطّى الحالة الطبيعية بفارق واضح، هذه الصفات الثلاثة هي: نقص التعاطف، ونقص الندم، بجانب السلوكيات المعادية للمجتمع. قد تجتمع هذه الصفات في شخص يبدو للوهلة الأولى طبيعيا، ويحتاج الأمر إلى فترة حتّى تكتشف أنه كذلك، وربما لا تفعل على الإطلاق.

على مدى تاريخنا كبشر لاقت تلك الفئة الخاصة جدا من الشخصيات، وتشمل مثلا2 الشخصيات السادية (Sadism)، والميكافيلية (Machiavellianism)، والنرجسية (Narcissism)، بجانب السيكوباتية (Psychopathy)، الاهتمام الشديد من قِبل كل نطاق واسع من الفئات البحثية، فبجانب الفن والأدب والسينما، والتي وجدت فيها كنزا ضخما غذّى هذا النوع من الفن على مدى وجوده، اهتمت علوم الجريمة والاقتصاد السلوكي والعلوم العصبية في العموم بمحاولة فهم طبيعة تلك الشخصيات، واستخراج أسباب ظهورها في المجتمع البشري، ودرجات وجودها سواء بالمعدلات أو حدة الحالة ما بين الطبيعي تماما والسيكوباتي الأكثر اضطرابا.

لكن شيئا فشيئا، ومع النمو المطّرد للقدرة البحثية في مجالات علم النفس والعلوم العصبية، تم إدخال المزيد والمزيد مما نسميه بـ “السمات المظلمة” (Dark Traits) المميزة لتلك الشخصيات، مما أدى إلى وجود عدد كبير من الاتجاهات والفرضيات النفسية المتنوعة، والتي تفتقر إلى التكامل النظري فيما بينها. حاليا، يمكن لنا أن نُجمل السمات المظلمة لتلك النوعية من الشخصيات في تسعة3 أنماط واضحة تجدها في التصميم المرفق:

بالطبع يمكن أن نتفهم الحاجة القصوى إلى فهم هذا النوع من اضطراب الشخصية عبر حكايتنا المبسطة بالأعلى، من بين كل مئة شخص في العالم هناك سيكوباتي واحد، والنسبة لا تظل كذلك بل ترتفع لتصبح شخصا ضمن كل 25 شخصا في عالم الأعمال التي تتطلب درجات من السلطة والإدارة، لذلك عكفت المنهجيات البحثية المختلفة على تطوير فهم مشترك لتلك السمات المظلمة على مدى نحو 70 سنة فائتة، لكنّ منهج بحث جديدا تماما قد ظهر فقط قبل عدة أسابيع في أربع دراسات جديدة، نُشرت4 في دورية “السيكولوجيكال ريفيو” (Psychological Review)، وأجراها فريق دنماركي ألماني مشترك، يحاول أن يجمع بين كل تلك السمات المظلمة في نواة واحدة فقط تتفرع لها جميعا، أو تظهر جميعها كأوجه مختلفة للشيء نفسه، هذا الشيء هو النواة المظلمة للشخصية البشرية (Dark Core of Personality)، والتي يمكن أن نعبر عنها بما يسمى “العامل المظلم” (Dark Factor)!

لكن لفهم هذا “العامل المُظلم” دعنا نتعرف قليلا إلى ابتكار نفسي قدمه تشارلز سبيرمان قبل أكثر من مئة سنة، إنه معامل الذكاء العام (5General intelligence)، والمعروف أيضا باسم “العامل g”، والذي يشير إلى الأداء الكلي لاختبارات القدرات العقلية الخاصة بالفرد، والفكرة الأكثر اثارة للانتباه هنا هي أنه على الرغم من أن الناس يمكن أن يتفوقوا في نطاقات إدراكية معينة كقدرات المعالجة البصرية، والذاكرة العاملة، والمرونة الإدراكية والتفكير النوعي، والمعرفة العامة، فإن هؤلاء الذين أبلوا بشكل جيد في أحد تلك النطاقات كانوا يميلون أيضا إلى تحقيق نتائج جيدة في النطاقات الأخرى. على سبيل المثال هناك احتمال كبير أن يبلي أحد الأشخاص بصورة جيدة في الاختبارات اللغوية إن حدث وأبلى جيدا في اختبارات المعالجة المنطقية.

بالتالي فإن الذكاء العام يؤثر في جميع المهام الإدراكية الأخرى وإن بدت للوهلة الأولى منفصلة شكلا وموضوعا عن بعضها البعض، ما يعني أن لها جميعا جذورا واحدة، أضف إلى ذلك6 أن معايير اختبار الذكاء الذي تم تطويره ليقيس “الذكاء العام” تضمنت فكرة رئيسية تقول إن الاختبار نفسه قد يتغير من شكل لآخر، لكن طالما أنه معقد إدراكيا بما يناسب المعايير فسوف يعطي الشخص النتيجة نفسها في أي اختبار ذكاء مهما اختلفت أشكال وأنواع الاختبارات، يعطي ذلك قدرا واسعا من القوة لمعامل الذكاء

على المنوال نفسه يحاول الفريق البحثي الجديد أن يستكشف الجذور التي تقع في خلفية السمات المظلمة، والتي تشترك فيها جميعا بدرجات متفاوتة، ثم بعد ذلك يقوم الفريق بتطوير اختبار نفسي مناسب بحيث نختبر تلك الفرضية، فإن كان هؤلاء الذين أحرزوا درجات عالية في إحدى السمات المظلمة قد أحرزوا أيضا درجات عالية في السمات الأخرى، فالاختبار سليم. بالتالي يقف “العامل المظلم D” ليربط كل أنواع الشخصيات المظلمة كما يقف معامل الذكاء العام ليربط كل أنواع الذكاء، ويوفّر هذا العامل إطارا نظريا موحدا وشاملا لفهم الشخصية المظلمة أيًّا كانت، وسيساعد هذا الفهم -بالتالي- على تطوير آليات علاجية بشكل أسرع وأكثر فاعلية، وسوف يفتح الباب لا شك لفهم الجانب البيولوجي الذي يقع في خلفية هذا كلّه.

بالتالي، وحسب الفريق البحثي، فبدلا من أن نقول إن هذا الشخص نرجسي أو إن الأخير هناك سادي أو إن ثالثهم سايكوباتي، يمكن فقط الاعتماد على الرقم الذي سيحصل عليه لمعامل الظلام D، لكن في تلك النقطة ربما قد حان الوقت لنتعرف بشكل أكثر دقة على “عامل الظلام”7 نفسه، هنا تقول الدراسة إنه اتجاه الفرد، بشكل عام، لرفع منفعته الفردية (المصلحة الخاصة) إلى أقصى حد بغض النظر عن منافع الآخرين، وبأي طريقة، والتي تنطوي على إيذاء الآخرين بشكل متعمّد. تتضمن المنفعة المقصودة هنا أيًّا من حاجات النفس البشرية المعتادة والتي كان شخص طبيعي ليمنع نفسه من إيذاء الآخرين في سبيل الحصول عليها، لكن ما الذي يعنيه إيذاء الآخرين بالنسبة لتلك الشخصيات؟

قد يكون إيذاء الآخرين هو المنفعة نفسها (الحصول على اللذة والمتعة)، أو يكون بسبب تأثيرهم على خفض تلك المنفعة الخاصة بهذا الشخص (الانتقام)، أو أن يكون الحصول على منفعة ما يتطلب أن تقلل من منافع الآخرين عبر إيذائهم (السلطة أو المال)، أو حتّى حينما يقرر هذا الشخص العمل على مصلحة الآخرين، لكنه لا يحاول أن يفيدهم بالمعنى المفهوم، ولكن إفادتهم هي فقط جزء من خطته لإفادة ذاته بأي طريقة أخرى (كأن تغذي مشاعر الضحية بالأمن أو بالثقة فقط لتطوير علاقة معها تسمح باستغلالها فيما بعد).

يأتي هذا الميل لرفع قيمة المنفعة الفردية مصحوبا8 بمعتقدات شخصية تعمل كمبررات للشخص كي يمارس هذه الأفعال دون خجل ولا يشعر بأي ندم، هذا التبرير يتطلب وجود قناعات أساسية، فمثلا يميل الأفراد ذوو الدخل المرتفع منهم أن يعتبروا أنفسهم، أو المجموعة من الأغنياء التي ينتمون إليها، أكثر تفوقا من الفقراء، كذلك سوف يميل هؤلاء إلى الأيديولوجيات التي تفضل الهيمنة والتفوق العرقي أو الجنسي أو السياسي، إلخ، أو تلك التي تسخر من العالم، أو التي تعتبره بيئة تنافسية، أي غابة قانونها الطبيعي يتطلب أن يقتل القوي الضعيف لكي يعيش، وهكذا، تلك القناعات تعمل كمعتقدات داخلية عميقة لتلك النوعية من الشخصيات، بحيث تبرر أسلوب حياتها غير المتعاطف، والذي يميل فقط لتحقيق المصلحة الخاصة.

هذا العامل المظلم إذن سيكون مسؤولا عن أيٍّ من السمات المظلمة التي تعرفنا إليها قبل قليل، كذلك فإن درجات هذا العامل توضح درجات من الصفات الخبيثة، بمعنى أننا هنا لا نتحدث عن حالة يكون الشخص فيها مريضا وحالة أخرى لا يكون فيها مريضا بقدر ما نتحدث -تأمل تلك النفطة جيدا- عن مجال واسع يشمل حالات متطرفة سوف تحصل على درجات كبيرة، وحالات متوسطة يمثلها أشخاص طبيعيون لكنهم أكثر ميلا لسلوكيات خبيثة9 كـ الإساءة، التسلط، إثارة الرعب لدى الآخرين، الجشع، الإهانة، الاستغلال، المضايقة، الإذلال، الإيذاء، الكذب، التلاعب، التحرش، السرقة، التعنيف، التهديد، التعذيب، التنمر، إلخ. العامل المظلم إذن، بكل بساطة تدعو للتأمل، هو عدّاد يقيس قدر السواد في ذواتنا!!

الأنانية، والتي تشتمل على تعمد الإيذاء، مع القناعات السابقة للتبرير، هي إذن المكونات الرئيسية لأي من الشخصيات المظلمة. من الناحية العملية، يشير هذا إلى أنه إذا كان لديك ميل لإظهار إحدى سمات الشخصية المظلمة، فمن المحتمل أيضا أن يكون لديك ميل قوي لوجود واحد أو أكثر من السمات الأخرى، في تلك النقطة يحين دور العامل التجريبي لتلك النظرية الجديدة، حيث في سلسلة من التجارب10 مع أكثر من 2500 شخص، سأل الباحثون إلى أي مدى اتفق الناس أو اختلفوا مع عبارات مثل: “أنا لا أخبر أحدا أبدا عن أسباب أفعالي إلا إذا كان مفيدا لي أن أفعل”، أو “أريد أن أرى الآخرين يحصلون على العقوبة التي يستحقونها”، أو “سأقول أي شيء لأحصل على ما أريد”، أو “لن أستكمل العمل على أهدافي إذا كان ذلك يتسبب في إيذاء الآخرين”، إلخ.

هنا جاءت النتائج11 لتقول إنه كان هناك ارتباط واضح بين السمات التسع المظلمة للشخصية، فإذا ارتفع واحد منها بدرجة عالية ارتفعت الأخرى بدرجات قريبة، وعلى الرغم من الارتباط المتفاوت بين السمات التسع، كانت خمس الصفات التالية أكثر اقترابا من بعضها البعض: مركزية الذات، الميكافيلية، عدم الالتزام الأخلاقي، السيكوباتية، السادية، والحقد. لا تتشابه الصفات المظلمة التسع بأي حال من الأحوال، بل يؤدي كل منها إلى أنماط مختلفة تماما من السلوكيات، لكنها جميعا -في جوهرها- تحتوي قلبا واحدا نابضا بالأنانية.

من خلال تلك التجارب قام الفريق البحثي بتطوير اختبار شخصية بسيط، يمكن لك عبر الإجابة عنه أن تعرف العامل المظلم (Factor D) الخاص بك، وبالتالي قدر الظلام في ذاتك (بتعبير شاعري بعض الشيء). بعد اجتياز كل الأسئلة سوف يطلب منك الاختبار أن تشارك بإجاباتك تلك في البحث العلمي وتضمها إلى قاعدة بياناتها على الإنترنت، وسواء وافقت على ذلك أو لا فسوف تحصل في الحالتين على النتائج الخاصة بك، والتي تُمثّل العامل المظلم الخاص بك، والذي سيكون رقما ما بين 1 (تمثل الحالة الأقل ظلامية) و5 (تمثل الشخصية الأكثر ظلامية)، كذلك ستعطيك النتائج نسبة وجود حالتك المظلمة المئوية بين كل الشخصيات التي قامت بالاختبار، وهي نحو 22 ألف شخص، هل أنت مستعد لتعرف إلى أي درجة مظلمة هي شخصيتك؟ سوف تجد الاختبار بالمصادر12 !!

هل هناك شياطين بشرية؟ أم أن البشر فقط يتصرّفون خلال سياقات مختلفة تبدو للبعض كأنها شيطانية؟ يخبرنا علم النفس أن هناك بعض الشخصيات التي قد تحتوي على جوانب مظلمة أكثر مما كنّا نظن، تحاول الدراسة الجديدة، والتي بالطبع لا تزال في حاجة ماسة إلى المزيد من التأكيدات على مدى سنوات عدة، أن تتقصى نواة هذا الظلام، لكنها للأسف لا تعطينا أسباب وجود ذلك الجانب الأسود من طبيعة الشخصية البشرية في العموم، لماذا يوجد هؤلاء الذين يتسببون لنا في قدر عظيم من الألم؟ هل هم هنا لأسباب كيميائية؟ تطورية؟ اجتماعية؟ حينما نكتشف ذلك ربما سنتمكن بسهولة من إيجاد طرق للحد من وجود تلك الحالات المتطرفة، لكن إلى ذلك الحين ما زال الظلام جزءا رئيسا من تركيب أعماقنا!