“Black Mirror”.. كيف تشوه مواقع التواصل حياتنا؟
أنت شخص مميز ومحبوب وواثق من نفسه طالما أن صورتك الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي جيدة وتعليقاتك لطيفة وردودك منمّقة، أما لو زاد عدد أصدقائك الافتراضيين ومتابعيك ستقترن سعادتك وثقتك بنفسك بزيادة حجم التفاف المجتمع الافتراضي حولك، ومع كل منشور لك تحصل على مئات بل آلاف الإعجابات والتعليقات فأنت إذًا شخص مثالي وستتحول إلى محط إعجاب الجميع ويسعى كل من حولك للتقرب منك وتكوين صداقة معك، لأن صداقتهم لك أو حتى صورة تجمع بينكما معا ستجعلك سعيد حظ وسيبدأ الناس التعرف عليك، وستتحول إلى أيقونة يسعى الكل للتقرب منها. من منا لم يمر بهذه المشاعر؟ ومن منا يحلم بها؟ ومن يفكر في حياته الافتراضية أكثر من الواقعية ويهتم بزيادة عدد متابعيه والمهتمين به ممن يُكسبونه هذه الهالة حتى لو كانت خادعة وغير حقيقية؟ لكن هل فكرت من قبل أن العكس تماما قد يحدث لك؟
في أكتوبر/تشرين الأول 2016 بدأ عرض الموسم الثالث من المسلسل الشهير “Black Mirror”، ملايين المتفرجين ينتظرون بلهفة متابعة الموسم الجديد من المسلسل خاصة بعد أن قامت نتفليكس بشرائه، وهذا الموسم هو أول إنتاجاتها للمسلسل[1]. يلعب الثيم الرئيس لـ “Black Mirror” على استشراف المستقبل غير المشرق للإنسان في ظل التطورات التكنولوجية العالية وصراعها مع الطبيعة الإنسانية والتي تؤدي إلى تدميرها. جاءت الحلقة الأولى من الموسم الثالث لتحمل فكرة نعيشها حاليا في الواقع والتي يمكن اختصارها تحت عنوان “الوجه الخادع للحياة الافتراضية” أو كما وصفها صاحب فكرة الحلقة شارلي بروكر[2] “إنها تهكم على فكرة القبول والصورة التي نحب أن نرسمها عن أنفسنا لنعرضها للآخرين”[3]. والمختلف في هذه الحلقة أنها قريبة بدرجة كبيرة من واقعنا الحالي -بعكس أغلب حلقات المسلسل التي تعتمد على استشراف مستقبلي بعد عشرات السنين- لكن حلقة “Nosedive” ليست بعيدة تماما عن ما نعيشه حاليا، وعن مشاعرنا القاتلة تجاه حياتنا الافتراضية.
“لا شك أن عصرنا يُفضل الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التمثيل على الواقع، المظهر على الوجود”
(لودفيغ أندرياس فويرباخ، مقدمة كتاب جوهر المسيحية)
نتعرف في بداية الحلقة على “لايسي” بالطريقة التي يتعرف بها الناس على بعضهم في هذا العالم الدرامي المتخيّل عن طريق أرقام التقييم (لايسي 4.2). لكل الشخصيات في هذا العالم أرقام تقييم يحصلون عليها من تعاملاتهم مع بعضهم البعض حتى لو لم تكن هناك علاقة تجمعهم، فـ “لايسي” عندما ابتسمت للنادل وتحدثت معه بلطف، وهو بالمثل، أعطته قبل انصرافها تقييم 5/5، وهو أيضا فعل ذلك، هذه التقييمات تزيد من أرقام كل شخص، والأكثر مثالية بالتأكيد من يكون تقييمه 5. هذا يشبه ما نصادفه حاليا في واقع العالم الافتراضي، من يملك حسابه في أي موقع تواصل اجتماعي عشرة أصدقاء يختلف عن من يملك مئة، وبالتأكيد الأفضل من يحصد الآلاف، والملايين هي المقياس الأكثر مثالية.
في محاضرة لها على مسرح “TEDx” تقول بايلي يارنل -واحدة من أفضل 100 سيدة في كندا، والمتخصصة في التسويق الإلكتروني- إن من مسببات الضغط العصبي بسبب مواقع التواصل الاجتماعي ما سمته “العملة الاجتماعية”، وهي بحسب تعريفها كالدولار، فتقول: “هي عملة تستخدمها حرفيا لتُقيّم بضاعة أو خدمة. على مواقع التواصل الاجتماعي، هذه الإعجابات والتعليقات والمشاركات أصبحت كصورة للعملة الاجتماعية وعلى هذا الأساس نعطي للأشياء قيمتها، وهو ما يُدعى في التسويق اقتصاد الاهتمام. كل شيء يتنافس من أجل اهتمامك، وعندما تعطي شيئا إعجابا أو شيئا من هذا الاهتمام المحدود تصبح عملية مسجلة ذات قيمة، وهذا رائع عندما نقوم ببيع ألبومات أو ملابس، لكن المشكلة في مواقع التواصل أننا نحن المنتج”[4]. وهذا بالفعل ينطبق على حياتنا الافتراضية وعلى ما قدمته حلقة “Nosedive”، نحن نسعى إلى جذب الاهتمام، فحولنا أنفسنا إلى سلع بشرية تسعى لإعجاب الجميع بالصورة المزيفة، ولأن لغة الصورة تلعب دورها، لخص هذا الكادر في نهاية الحلقة كل ما أرادت بايلي يارنل أن تقوله.
اعتدنا في مشاهدة حلقات “Black Mirror” على الألوان الرمادية التي تعكس رمزية المستقبل الكئيب، لكن هذه الحلقة على العكس تماما تختلف في ألوانها، فقد غلب عليها درجات الألوان الفاتحة “Pastel Colours”، فالبطلة وكل الشخصيات ترتدي نفس درجات الألوان الباستيلية، والعالم من حولهم أيضا بالدرجات نفسها. هذه الألوان ليست حقيقية، إنها تشبه الصور الزائفة التي تزين الواقع الافتراضي، هذه الألوان نعرفها من فلاتر الإنستغرام أو سناب شات أو برامج تعديل الصور التي تجمل صورنا الحقيقية، فتحول هذا العالم إلى صور وردية تشبه ملصقات الإعلانات، أو صورة الأحلام التي نراها في النوم أو اليقظة لكنها ليست الواقع، إنها الكابوس الذي تريد البطلة العيش فيه.
موسيقى ماكس ريختر أضفت أيضا أجواء حالمة تتماشى مع تلك الصورة الوردية لحياة البطلة في هذا العالم الواقعي الافتراضي[5]، وهو أمر غير معتاد عليه أيضا في حلقات “Black Mirror”، وتم توظيف الموسيقى في النصف الأول من الحلقة الذي تزدهر فيه أحلام “لايسي” قبل أن تنقلب الأمور كلها ضدها. فرصة ذهبية جاءت لـ”لايسي” لترتقي من 4.2 إلى تقييم أعلى من ذلك، وهي حفل زفاف صديقة طفولتها “ناعومي” صاحبة تقييم 4.8، ورغم الماضي السيئ الذي كانت فيه الأخيرة تتنمر على “لايسي” فإنها تناست كل هذا من أجل الارتقاء في التقييم، لأن هوسها بالتقييمات بدأ يسيطر عليها، بل إنها أصبحت تلقي على أخيها اتهامات بالفشل في حياته لأن تقييماته 3.
الجانب القاسي في عالم هذه الحلقة هو أن التقييمات القليلة لأي شخص تعني الكثير، فهي تؤثر بالسلب على حياته، فصاحب تقييم 1 أو 2 مثلا قد لا تُفتح له أبواب المحال التجارية، وقد لا يُسمح له بالتنزه بحرية في الشوارع لأن الناس ستعامله كالمنبوذ، فسيحصل منهم على تقييمات أقل حتى لو لم يكونوا يعرفونه، لن يستطيع الحجز في رحلات الطيران، سيخسر فرصا للخروج في مواعيد غرامية، وبالطبع سيفقد أصدقاءه مثل “شيستر” زميل “لايسي” في العمل الذي خسر تقييماته بعد أن انفصل عن حبيبته فقرر كل زملاء العمل أن يعطوه تقييمات قليلة، فتحولت حياته إلى جحيم وأصبح يستجدي الجميع ليستعيد تقييماته من جديد.
بعد فشل “لايسي” في الوصول إلى زفاف صديقتها لم تستطع كتم مشاعرها وأعلنت غضبها وفقدت أعصابها مما تسبب في انزعاج من حولها، الأمر الذي أدى إلى إعطائها تقييمات منخفضة أدت إلى تقليل تقييمها العام، فتحولت من 4.3 إلى 2.8 مما أصابها بالضغط النفسي، فزاد إصرارها للذهاب إلى الزفاف لتستعيد بعض التقييمات المرتفعة، هذا الرهاب يُعرف بـ [F.O.M.O)[6) وهو يصيب الشخص عندما يشعر بأنه سيفقد مكانته في المجتمع، كأن يفوته حدث اجتماعي ما، أو يقل اتصاله بالآخرين مما يؤثر على حالته النفسية فيشعر بالخوف والتوتر ويصاب بالاكتئاب.
في رحلتها التي تخوضها “لايسي” إلى الزفاف في النصف الأخير من الحلقة، بدأت درجات الباستيل تخفت ليحل محلها الإظلام والعودة بالتدريج لدرجات الرمادي. تلتقي “لايسي” على الطريق بسيدة تُدعى “سوزن” تعرض عليها أن توصلها لأقرب محطة لها، ترفض “لايسي” مساعدتها -رغم رفض الكل لها لأن تقييمها منخفض- فقط لأن هذه السيدة تقييمها مختلف، لكن تقبل “لايسي” لقلة حيلتها. تحدثها السيدة عن حياتها قبل أن تقل تقييماتها وأن صراحتها الزائدة وغضبها بعد موت زوجها المصاب بالسرطان تسببت في انخفاض تقييماتها وكراهية الناس لها، ولكنها في النهاية لم تندم على فقدها لهؤلاء المنافقين. رفضت “لايسي” أن تكون مثل “سوزن”، رفضت أن تخلع عنها رداء هذا العالم لأنها أدمنته ولا تتخيل حياتها بدونه، لكنها بعد وصولها إلى الزفاف وكانت قد خسرت كل شيء لم تستطع أن تكتم مشاعرها الغاضبة، وكشفت الوجه الحقيقي لصديقتها “ناعومي” وحقيقة علاقتها بها والتي لم تكن طيّبة كما كانت تدّعي.
تقول بوبي جيمي صاحبة مؤسسة “Happy Not Perfect”: “يمكننا القول إن هويتنا الرقمية أهم من هويتنا المادية، لأنها أصبحت الشيء الذي نُحاكم عليه أولا”[7]. وهذا صحيح للأسف، لكن ليس من المنطقي أن يطالب محاضرو التنمية البشرية أو الأطباء النفسيون مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي بأن ينفصلوا عنها ويقاطعوها، لكن الأهم توعية الناس بالتصالح مع واقعنا المادي والافتراضي معا، وأن نتحرر من الصورة الوردية التي تسيطر على عقولنا لتمحو مفهومنا الحقيقي عن الحياة والسعادة. إحدى قواعدها التي تسجلها بوبي في دفترها دوما هي “كل شخص يبدو الأجمل، الأسعد، رائع البشرة، لا تصدقه”[8]، وهذا بالفعل ما ينبغي أن نصدقه جميعا.
كل هذا الخيال يُثير بداخلنا التخوف من المستقبل، لكن ما يزيد هذا التخوف حقا هو أن هذا النظام الحياتي سيتحول إلى حقيقة بالفعل، فقد اعتزمت الحكومة الصينية منذ عام 2014 تطبيق نظام ائتمان اجتماعي [9] غرضه تقييم مدى أهلية الثقة بالشعب الصيني الذي يبلغ نحو 1.4 بليون نسمة، وسيبدأ تطبيقه عام 2020، إلا أنه بدأ يُطبق بالفعل بشكل مبدئي/تجريبي في مدينة سوجو. طبيعة النظام تعطي لكل مواطن 100 نقطة في حسابه متصلة ببطاقة هويته أو حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي، فإذا قام الفرد بعمل شيء جيد كالتطوع في مؤسسة خيرية أو المساهمة في إعادة تدوير القمامة، أو تبرع بالدم، أو أرسل رسائل إيجابية عن بلده عبر مواقع التواصل فإن تقييماته ستزيد وسيحصل في المقابل على اشتراك مجاني في النادي الرياضي وتخفيضات على تذاكر المواصلات العامة وأوقات انتظار أقل في المستشفيات، أما لو قام بأفعال سيئة مثل عبور إشارة المرور وهي مفتوحة، أو إلغاء حجوزات أو كتب تعليقات أو تقييمات غير صحيحة على أي خدمة أو حتى تعامل مع شخص من ذوي التقييمات القليلة ستقل تقييماته، وسيعاقب بإلغاء حجوزات الطيران بسهولة وسيحصل على سرعات إنترنت أقل وسيُمنع من الحجز في المطاعم التي ستكون مقصورة على أصحاب التقييمات العالية فقط[10].