تحقيقات وتقارير

عقب ارتفاع أسعار اللحوم عنبر الباطنية بسوق أم درمان.. ارتفاع أسهم (الكمونية) و(الكوارع) ببورصة اللحوم


في الجزء الشمالي للسوق الشعبي أم درمان، لفت انتباهي جمع غفير من الناس يلتفون حول طاولات متراصة تملكني الفضول لمعرفة ما يدور داخل هذا المكان

، فتوجهت بسؤال لبائع الخضروات الذي كنت أقف بجواره لعلي إجد إجابة تشبع الفضول الذي ملأ دواخلي فبادرته بسؤال عاجل، ماذا هناك فأجابني على الفور “دا عنبر الباطنية”، إجابة الرجل جعلتني أتسمر من الدهشة، وبدأت أفكر في مدلول الاسم ودون أن أشعر وجدت نفسي داخل هذا العنبر المدهش بكل تفاصيله، وعيناي تتجولان وتلتقطان الكثير من الصور والمشاهد.

الكل في انشغال

والعنبر مكان متخصص لبيع أحشاء الحيوانات لمختلف أنواع المواشي، من أم فتفت والكمونية ورؤوس العجول والماعز والكوارع والكبد والكلاوي والفراخ البلدي والقوانص، لا مكان هناك للثرترة وطرح التساؤلات الكل مشغول فرأيت من يقوم بسلخ رؤوس الثيران وآخر يجهز الكوارع ومجموعة تضع الكمونية داخل البراميل، وهنالك من يفاضل في السعر وآخر مشغول بإطلاق الأبخرة لطرد الذباب.

ولكن لفت انتباهي وكان مدعاة للاشمئزاز تلك الرائحة الكريهه المنبعثة والتي تعكر صفو المكان ورغم ذلك ظل الكثيرون يقاومون تلك الروائح من أجل الحصول على مبتغاهم.

بدائل ناجعة

تواجدي داخل عنبر الباطنية وما شاهدته وعايشته من إقبال كبير على الشراء ولد بداخلي عدداً من التساؤلات خاصة وأن الكثيرين يشمئزون منها، ولا يرغبون في رؤيتها، ناهيك عن أكلها، إذن ما هي الدوافع التي جعلت الكثيرين يبدلون قناعاتهم تجاه هذا النوع من الوجبات، توجهت بكل هذه الأسئلة إلى حامد دواش أحد أشهر الجزارين بالسوق الشعبي لأجد تفسيراً منطقياً لهذا الإقبال الكبير، يقول دواش في حديثه للصيحة: واحد من الأشياء التي تميز الشعب السوداني عن سائر الشعوب خصوصيته فيما يتعلق بالثقافة الغذائية، وتعد الكمونية واحدة من الثقافة التي ارتبطت بالشعب السوداني، وهي تصنع بعدة طرق هنالك من يفضلها مشوية و،آخر حلة، ومنهم من يستخدمها في الطبخ مع الخضروات كالبامية المفروكة والويكة، وهنالك من تخصص في طبخها بكل مهارة وإتقان، وأضاف دواش: بحكم تجربتي وخبرتي في الجزارة ان البطنيات ارتبطت في السابق بالطبقة المسحوقة لأسعارها الزهيدةـ وهذا ناتج عن قلة الطلب وتوفر العرض، وبالتالي كان الإقبال قليلاً إذا ما قارناه بما يحدث اليوم.

إقبال كبير

وقطع دواش أن الظروف الاقتصادية التي يعاني منها الكثيرون جعلت الناس يقبلون على شراء البطنيات بمختلف مسمياتها كوجبات بديلة للحوم الحمراء التي ارتفع سعرها وبات الكثيرون لا يقوون على شرائها فثمن ربع كيلو لحمة يمكن أن تشتري به “بنابير” تكفي لإطعام عشرة أشخاص، وتسد جوعهم، غير أنه عاد وأكد أن الإقبال الكبير على البطنيات أدى إلى ارتفاع الأسعار.

ارتفاع الأسعار

علل دواش الارتفاع الذي طرأ على سوق البطنيات لارتفاع سعر البهيمة في الزريبة والذي نتج عنه ارتفاع جنوني في سعر اللحوم، هذا فضلاً عن إقبال المطاعم على هذه الأصناف لكثرة الطلب عليها للدرجة التي وصلت فيها بعض المطاعم بحجز كميات مما خلق ندرة في السوق أدى إلى الارتفاع

زوار العنبر

ومن خلال تجوالي داخل عنبر الباطنية بالسوق الشعبي تعرفت على أبو حنان وهو أشهر بائع أم فتفت، وصاحب باع طويل وخبرات تراكمية ارتبط بالمهنة قرابة العشرين عاماً، قال لي أبو حنان إن عنبر الباطنية يعد أهم أقسام منظومة السوق الشعبي، وكما ترى “أشار بيده إلى عامة الناس” الإقبال الكبير على الشراء خاصة في العطلات الرسمية والمناسبات يتضاعف عدد زوار العنبر، وهنالك رواد ثابتون أقمنا معهم علاقات وطيدة لدرجة يمكن أن نبيع بالدفع الآجل.

جبايات ورسوم

ويؤكد أبو حنان للصيحة أن سوق الباطنية استطاع أن يسكت العديد من “الخشوم” فهو يحتوي على أصناف باتت بدائل ناجعة ومفيدة في ظل ارتفاع اللحوم بشقيها الضأني والبقري، مشيراً إلى أن “العفشة ” تدخل في العديد من الطبائخ معللاً ارتفاع الأسعار لكثرة الطلب بجانب الجبايات المفروضة عليهم والمتمثلة في النفايات والكرت الصحي.

في حضرة طلب

وبالقرب من أبو حنان يقف طلب المتخصص في بيع الكوارع، ووجدت معه مجموعة من الزبائن مما حدا بي أن أنتظر قليلاً حتى يتسنى لي الحديث معه، وعندما طال الانتظار ناداني بقوله طلبك يا أستاذ كوارع ضان ولا عجل لباني أخبرته بأني من عشاق الكوارع وبارع في طبخها وأفضل كوارع العجل اللباني، فارتسمت على شفتيه ابتسامه عميقة ورد علي بعبارة أنت زول إكيل أي متذوق جيد للطعام، وأردف بقوله، تعرف يا أستاذ أي أكل زفر سمح، وما أي زول بيعرف ياكل، المهم إنك كيف تعرف تطبخ الأكل بصورة جيدة.

ابتسامة مجاملة

سألته عن السوق ونشاطه أخبرني أن الأمور جيدة، وأن الظروف الاقتصادية الطاحنة جعلت الناس يتهافتون على عنبر الباطنية، فتحرك السوق بشكل جيد، سألته عن سعر جوز الكوارع أجابني بسبعين جنيهاً، فباغته بسؤال آخر ليه وأضفت سأدفع ثلاثين جنيهاً فقط فرد علي بعبارة مستفزة انت من أهل الكهف يا أستاذ إن السعر الذي ذكرته كان قبل خمس سنوات، وأضاف من أي كوكب أنت لم أرد عليه واكتفيت بابتسامة من باب المجاملة وسألته عن حركة البيع والشراء في سوق الكوارع أخبرني أن الطلب على الكوارع في تزايد مستمر، خاصة من أصحاب المطاعم الشعبية، وعزا ذلك لارتفاع الوجبات السريعة في الكافتريات، إذ وصل سندويتش البيرقر إلى خمسين جنيهاً، فمن ناحية اقتصادية فضل الكثيرون الكوارع، بالنسبة لعامة الناس أخبرني طلب، هنالك زبائن ثابتون نعرفهم بالاسم وأن حركة البيع عادة ما تزداد في يوم الخميس .

سر العنبر

الأريحية التي سادت بيني وبين طلب بائع الكوارع، جعلته ينداح ويفضي لي بالكثير من الأسرار الخفية عن عنبر الباطنية بقوله: العنبر دا الواحد لو ما خبر دروبه بروح ساكت قلت له وضح لي أكثر فأخبرني إذا أردت الشراء الأصناف الجيدة عليك أن تحضر في وقت العصر قلت لماذا هذا الوقت بالتحديد، هنا داهمنا زبون قطع حوارنا، استأذن طلب بأن يقضي حاجة الزبون .

بنقول في شنو

عاد محدثي بعد أن باع ثلاثة أجواز من الكوارع ليوبخني بقوله انت يا اخوي جاي تشتري ولا جاي تتونس فأجبته بكل دبلوماسية بصراحة ارتحت ليك ومعرفة الرجال كنز فنعتني بأني حلنقي وبياع كلام فأسررتها في نفسي وكنت في ترقب لتكملة ما انقطع من حديث، تنفست الصعداء عندما قال لي طلب نحنا كنا بنقول في شنو ليستدرك بعد ذلك ويقول شوف يا استاذ انت سألتني ليه وقت العصر، هذا التوقيت بالتحديد يستقبل فيه السوق كل ما هو طازج لأن عملية الذبح في السلخانه تبدأ منتصف النهار، وحينما يحين وقت العصر تصل البضاعة الى السوق في الفترات الصباحية عادة ما يباع كل ما هو بائت وقد يتعرض للتعفن، وبالتالي الزبون لو ما كان حصيف أكيد حايركب ماسورة . وبعد كل هذا الحديث الشيق ابتعت منه جوزاً من الكوارع وانتقلت إلي موقع آخر.

قصة أخرى

في الناحية الشرقية لعنبر الباطنية قصة أخرى تجسد غرابة هذا العنبر وارتباطه العميق بالطبقة المسحوقة فمجرد الدخول إلى هذا المكان والتأمل في وجوه الناس تدرك من الوهلة الأولى حجم البؤس الذي يعتريها والمعاناة التي تحيط بها، في هذا المكان بالتحديد يتم بيع رؤوس الثيران والعجول بواقع 180 جنيها للرأس بما فيها رسوم السلخ والتوضيب وللمعلومية، أن أقل رأس يزن ما يقارب الخمسة كيلو من اللحهم هذا بخلاف اللسان.

تكيف مع الوضع الاقتصادي

وبعد لحظات من الترقب اقتربت من أحد الأشخاص ويدعى عمر قام بشراء ثلاثة رؤوس مما حرك بداخلي الفضول فاقتربت منه وباغته بسؤال هل لحوم الرأس تصلح للطبخ أجابني بالإيجاب وقال لي أزيدك من الشعر بيتاً وبعد أن تنحينا جانباً دعوته على كوب من القهوة جلسنا عند الحاجة سلطانة هكذا ينادونها، امرأة في الخمسين من العمر تجلس تحت راكوبة مصنوعة من القنا وشوالات الخيش، بعد أن قدمت لنا الماء البارد، أحضرت القهوة وامتزجت رائحة البخور المعطر بالروائح الكريهة وفي ظل هذه الأجواء الملبدة أدرت حديثي مع عمر عرفت أنه من أشهر زبائن العنبر ويحرص على شراء رؤوس الثيران، وقد علل لي ذلك بقوله منذ نشوب الأزمة الاقتصادية، حاولت أن أتكيف مع الوضع وفقاً لدخلي الشهري وأبحث عن بدائل تتماشى مع معطيات الواقع الراهن، بحيث أنها لا تؤثر علي ظروفي وتدخلني في ضائقة مالية فوجدت ضالتي في رؤوس الثيران.

وأضاف عمر بعد توضيب وتكسير الرأس نستخرج اللحوم الحمراء ونضعها على جنب كاشفاً أن داخل العنبر هنالك من يبيع هذه اللحوم بالكوم، حيث يبلغ سعر الكوم أربعين جنيهاً ويزن قرابة الكيلو وأكد عمر أن ثلاثة رؤوس تؤمن له قوت شهر وهي من ناحية اقتصادية مجدية إلى حد بعيد.

الفنادق على الخط

من خلال تجوالي داخل عنبر الباطنية وجدت أن هنالك ارتفاعا كبيراً في سعر الكبدة سواء كانت ضأناً أم عجالي، ويرجع قدورة المتخصص في بيع الكبدة أسباب الارتفاع الى الطلب المتزايد خاصة من الفنادق والمطاعم السياحية تلبية لرغبات زبائنهم من الأجانب فقد وصل سعر الكبدة العجالي إلى 220 فيما بلغت قطعة الكبدة الضأن 100 جنيه.

أجواء غير صحية

ما لفت انتباهي خلال هذه الجولة، الأجواء غير الصحية التي تحيط بالعنبر، فالبطنيات تباع في أجواء غير مثالية والمخلفات ملقاة بصورة عشوائية مما تسبب في انبعاث الروائح الكريهة، ومع ذلك لم تتوقف حركة البيع والشراء مما يؤكد مدى تأثير الضغط الاقتصادي على حياة الناس الذين وجدوا ضالتهم في هذه البطنيات باعتبارها أقل سعراً، ويمكن أن تستر الحال وتسد جوعهم.

أسعار معقولة

الخبير الاقتصادي عثمان الخليفة في تعليقه على هذا الموضوع، قال للصيحة: في ظل الظروف الاقتصادية المعلومة للجميع لابد للناس أن تبحث عن بدائل تتناسب مع إمكانياتهم وقدراتهم المالية، فوجدوا ضالتهم في هذه البطنيات باعتبارها تباع بأسعار معقولة، وتوقع الخبير الاقتصادي ارتفاع أسعارها طالما الأقبال عليها في تنامٍ وتصاعد، لأن الإقبال على السلع يجعل هنالك طلبا متناميا مما يضاعف الأسعار.

الصيحة