1720 طفلاً متشرداً وعاملاً .. الدمازين .. الحرب تقتل براءة الصغار
وزير الشؤون الاجتماعية: لا نملك إمكانات لرعاية المتشردين
متشرد: الظروف هي التي أجبرتني على اللجوء للشارع
ميكانيكي: الأطفال يحضرون إلينا يومياً
الساعة السادسة صباحا، زخات المطر لم تتوقف في هذه المدينة الخضراء، شعرت بفراغ، وقررت مغادرة الغرفة إلى بهو الفندق والذي لم أمكث فيه سوى دقائق معدودة، ووجدت خطواتي تسوقني إلى السوق، في تلك الساعة الباكرة بدأت الحياة تدب، والسيارات تفرغ ما في جوفها من مواطنين.. وأصحاب المحال التجارية يشرعون في فتح أبوابها يرددون “فتاح يا عليم، رزاق يا كريم”، فقد قاموا على عجل، همهموا بكلمات حينما غادروا منازلهم، ولكن لم يجدوا غير مغالبة الظروف، كل شيء كان يمضي حسب المألوف، غير أن ثلاثة مشاهد لأطفال صغار في السن استوقفتني.
على قارعة الطريق
يبدو أن غيابي عن زيارة الدمازين لأربعة أعوام جعلني أفاجأ بالمشهد الأول، فهذه الولاية التي كثيراً ما ترددت عليها، وعلى مر التاريخ اشتهرت بتماسك نسيجها الاجتماعي، فالأسرة يعد دورها مؤثراً ووجودها فاعلاً، لذا فإنها ورغم الظروف الأمنية إلا أن الكثير من الظواهر السالبة لم تجد طريقاً إليها، ولكن يبدو أن الطرق الكثير على الحديد يضعفه، لأن ثمة تغيير قد طرأ على هذه الولاية خاصة على الصعيد الاجتماعي، تجسد لي ذلك، حينما رأيت ثلاثة أطفال في ذلك الصباح الماطر وهم يغطون في نوم عميق تحت مظلة محل تجاري وسط سوق الدمازين، بدا الأمر غريباً وغير مألوف، لأن آخر عهد لي بالدمازين، لم تكن مثل هذه المناظر موجودة، تجاوزت محطة الدهشة سريعاً واقتربت منهم، ولكن لم أشأ إيقاظهم، فوقفت أتأمل بحزن وأسى حالهم البائس، وقد امتزجت براءتهم بمعاناة عبرت عنها ثيابهم الرثة وأجسادهم النحيلة، حينما هممت بالمغادرة وقبل أن أدير ظهري لهم حتي لا أتسبب في إيقاظهم، وكانت في رأسي ثمة تساؤلات لمحت أحدهم وقد استيقظ، فقررت الاقتراب منه.
بدون جواز سفر
كنتُ أبحث عن مدخل للحديث معه حتى لا يتحفظ أو يهرب مني، فأخرجت سريعاً مبلغاً من المال وقلت له هذا لكم الثلاثة، تردد في استلامه، بيد أنه فعل بعد تفكير لبرهة من الزمن، كان صامتاً ينظر إلي بدهشة وربما خوف، سألته عن عمره فنفى معرفته به، وحتى ادخل الاطمئنان إلى قلبه تظاهرت بالضحك، وقلت له “كيف يا زول ما عارف عمرك”، ساعتها تحرر من حالة التوجس، وقال إنه لا يعرف على وجه الدقة عمره، ولكنه ترك المدرسة قبل ثلاثة أعوام، وحينما سألته عن أسباب تركها أجابني سريعاً “الظروف بس”، من حديثه عرفت أن جذوره تنحدر من محلية قيسان وأنه يدعى آدم، وأن السوق هو ملجأه حيث يقضي سحابة نهاره في التجول وهو يهيم على وجهه على غير هدى، يبحث فقط عن ما يسد رمقه ثم يخلد ليلاً مع رفيقيه اللذين ورغم حديثي مع زميلهما كان يغطان في نوم عميق، سألته عن أسرته فصمت، واكتست ملامح وجهه بالحزن، وقال إن والده توفي، وأمه تزوجت بآخر تشاجر معه، وعلى إثر ذلك هجر المنزل.
تشرّد كامل
توغلت بعد ذلك في سوق الدمازين، والذي رغم الجهود التي يبذلها المعتمد الشاب الشيخ أدهم لتغيير صورته البائسة، إلا أنه ما يزال غارقاً في الفوضى كما رأيته قبل أربعة أعوام حينما اعتبرته أكثر أسواق البلاد تردياً في البيئة، وصلت بعد ذلك محال بيع الملابس والأحذية، وكنت أرصد حركة المارة، ولاحظت وجود عدد مقدر من الأطفال رغم أن اليوم الذي تجولت فيه لم تكن المدارس في إجازتها الأسبوعية، وأمام أحد المصارف الذي يجري العمل في تشييده، شاهدت صبياً لم يتجاوز الثانية عشرة وهو يرتدي ملابس بالية، اقتربت منه، لم أجد صعوبة في استنطاقه، سألته عن موعد فتح المحال التجارية أبوابها فأجابني سريعاً ودون تردد “بعد ساعة، وفي ناس بفتحوا محلاتهم هسه”، سألته هل تعمل في هذا السوق أم أنك حضرت لشراء أغراض في هذا الوقت المبكر، فضحك من سؤالي وأجابني “هسه ده منظر زول عندو قروش”، لم أرد علي سؤاله، لأنه واصل حديثه حينما أشار إلى أنه يتخذ المظلات ملجأ له، فقلت له “يعني ما عندك أهل”، أجاب “عندي لكن خليت البيت بعد جينا من الكرمك”، قال اسمه حسن، وظل منذ عام يعتمد على نفسه، ولكنه يرفض إطلاق صفة “شماشي” عليه، وفلسفته في ذلك ترتكز على أنه يعمل في نظافة المحلات التجارية، وعند حلول المساء يحرسها.
انكسار وعدوانية
عند حلول الساعة السابعة، فضلت أن أذهب إلى أقرب محل لشرب الشاي، وكانت زخات المطر وقتها قد توقفت، فاقتربت من بائعة شاي ثلاثينية، ولحسن الحظ وجدت بالقرب منها أربعة من الأطفال، ولم أشأ أن أتحدث، فقد فضلت أن أتابع حديثها معهم، طالبتهم والغضب يتملكها بعدم الحضور إلى محلها واتهمتهم بسرقة بعض الأواني وبيعها لبائعة شاي أخرى، كانوا يردون عليها بالنفي، فتدخل أحد الجالسين وطلب منهم مغادرة المكان، بدا عليهم الانكسار وهم يتعرضون للإهانة فغادروا بهدوء. واصلت بائعة الشاي حديثها، وهي تعبر عن سخطها من ازدياد أعداد “الشماشة” في السوق، وأكدت أن معظمهم يمتهنون السرقة ويتصفون بالعدوانية ويتعاطون “السلسيون”. قلت لها في محاولة لتخفيف حدة غضبها “يا بتنا ديل ضحايا الظروف الاقتصادية والحرب”، ويبدو أن حديثي لم يعجبها، فأشاحت بوجهها عني وسألتني “عاوز قهوة ولا شاي”، بعد ذلك فضلت احتساء الشاي، فربما لها دفوعاتها في رأيها المتطرف بحق الأطفال المتشردين أو انها قد قست عليهم ولم تقدر ظروفهم .
الكرتة والمطاعم
بعد ذلك اخترت التوجه ناحية أحد المطاعم، وسألت شاباً كان يجلس على مقعد وهو يراقب العمل، ويصدر توجيهاته للعمال، عرفته بهويتي الصحفية وأبديت له ملاحظتي حول وجود أطفال مشتردين بالدمازين، وافق أن يتحدث حول هذا الأمر، غير أنه اشترط عدم ذكر اسمه، فأشار إلى أن التشرد بمفهومه الشامل، لم يكن معروفاً بالدمازين، وقال: نعم كان يوجد عدد من الأطفال، تركوا مقاعد الدراسة، واتجهوا للعمل في الأسواق لمساعدة أسرهم، وهؤلاء ما يزالوا موجودين وعلاقتهم مع أسرهم لم تنقطع بعودتهم نهاية اليوم العملي إلى منازلهم بل حتى الأطفال الذين لم يكن يعملون كانوا يعودون إلى أسرهم مساءً، ولكن الذي طرأ في الأعوام الأخيرة بروز ظاهرة التشرد الكامل، في السابق لم يكن يوجد أطفال متشردون كلياً، ولكن الآن أعدادهم في تنامٍ ونتعامل معهم كثيراً لأنهم يحضرون إلى المطاعم ويطالبون بإطعامهم وبعضهم يأخذ الكرتة.
أزمة أخرى
حديث الشاب الذي التقيته في المطعم، كان سبباً كافياً للفت نظري إلى قضية أخرى ذات صلة بالتشرد في ولاية النيل الأزرق، أو فلنقل الدمازين التي تستضيف 75% من مواطني المحليات المتأثرة بالحرب بحسب إحصاءات رسمية، وتتمثل هذه القضية في عمالة الأطفال الذين تركوا حجرات الدراسة بداعي الظروف الاقتصادية، وبالفعل، وفي طريقي إلى المنطقة الصناعية بالدمازين رأيت الكثير من الأطفال وهم يعملون في مهن مختلفة خاصة عربات الكارو وغسيل السيارات، وأمام إحدى الورش رأيت طفلاً يجلس على مقعد صغير وهو منهمك في غسيل أحد أجزاء ماكينة العربة، لم اتوقف معه طويلاً، وعرفت أنه يبلغ من العمر سبعة عشر عاماً وأنه ظل يعمل في مجال الميكانيكا منذ أربعة أعوام بعد أن ترك الدراسة إلى غير رجعة بسبب ظروف أسرته، وفي أثناء حديثي معه حضر صاحب الورشة الذي عرف غرضي الصحفي، فقال إن عمالة الأطفال في الدمازين ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى سنوات طوال، بيد أنه أكد ارتفاع معدلاتها في السنوات الأخيرة، وكشف عن أنه وفي كل يوم يحضر إليه أطفال يبحثون عن العمل، ورأى أن الحرب خلفت آثاراً كارثية وأن الأطفال أبرز الشرائح التي دفعت فاتورتها باهظة بضياع مستقبلهم التعليمي، وأكد أن عدد الأطفال الذين يعلمون في مهن مختلفة خاصة بالورش لا يقل عن الألف.
اعتراف وأمل
بدت لي الصورة واضحة وعنوانها البارز أن مدينة الدمازين تشهد ازدياداً كبيراً في أعداد الأطفال المتشردين، وأولئك الذين يمتهنون مهناً مختلفة، وهذا الواقع الأليم دفعنا لأن نضع هذه القضية على منضدة وزير الرعاية الاجتماعية بولاية النيل الأزرق، عثمان الأمين، الذي كان شفافاً وهو يضع يده على هذا الجرح النازف.
ويلفت في بداية حديثه لـ(الصيحة) إلى أن الذي يزور الدمازين يلحظ وجود عدد مقدر من الأطفال المشردين.
ويمضي الوزير في حديثه، ويكشف عن أن بروز هذه الظاهرة استدعى وجود جسم بالوزارة لإيجاد حلول لها، وقال إن إدارة الرعاية الاجتماعية هي التي تتولى هذا الملف وتوليه اهتماما كبيراً، بالإضافة إلى الجهود المبذولة من قبل مجلس الطفولة بالولاية، في هذا الصدد، ويرجع أسباب تفشي هذه الظاهرة إلى الظروف الاقتصادية التي خلفتها الحرب الدائرة في الولاية منذ ثلاثين عاماً.
ضعف استجابة المركز
بعد إقرار الوزير بوجود أزمة أطفال متشردين بالنيل الأزرق يبرز السؤال حول الجهود التي بُذلت للمعالجة الجذرية حتى يعود هؤلاء الصغار لأحضان أسرهم أو رعايتهم حتى لا يذهبوا في طريق الضياع.
يعود الوزير عثمان الأمين ويكشف عن إجرائهم حصراً ورصداً كاملاً للأطفال المتشردين ووضعهم خططاً قصيرة وبعيدة المدى لمعالجة قضيتهم، ويوضح الوزير دفعهم بملف يحوي تقارير وافية إلى وزارة الرعاية والضمان الاجتماعي الاتحادية، إلا أنه يؤكد عدم وجود استجابة، مبيناً أن هذه القضية أكبر من إمكانيات الوزارة الولائية التي ورغم امتلاكها داراً للإيواء، إلا أنها لا تملك القدرة على استضافة الأطفال المتشردين لرعايتهم على الأصعدة كافة، نافياً تلقيهم دعماً من الحكومة الاتحادية، مبيناً اهتمام عدد من المنظمات الوطنية واليونسيف بالقضية وتعاونها معهم لإيجاد حلول، معتبرًا الحرب من الأسباب المباشرة التي تسهم في زيادة أعداد الاطفال المتشردين بالنيل الأزرق، ويكشف أن عدد الأطفال المتشردين في النيل الأزرق يبلغ 720 بحسب آخر إحصائية، مؤكداً على أن هذه القضية تشكل لهم هاجساً كبيراً، لذا فإنهم يأملون في تعاون كل الجهات الحكومية والمنظمات من أجل إقالة عثرة هؤلاء الأطفال حتى لا يضيع مستقبلهم، مشيداً بالدعم المتصل من ديوان الزكاة الذي قال إنه ظل يقف مع الوزارة في كل برامجها الرامية إلى علاج المشاكل الإنسانية.
الدمازين: صديق رمضان
صحيفة الصيحة