رأي ومقالات

سوار حامل صخرة الذهب .. كان قمرا بين العساكر


أغمض الرئيس السوداني الأسبق المشير عبد الرحمن سور الذهب جفونه للمرة الأخيرة، في المستشفى العسكري بالعاصمة السعودية الرياض،

وقد أوصى قُبيل موته أن يدفن في البقيع بالجوار النبوي الشريف، حفيٍ بضميرِ ككتاب الله طاهر، لتدفن معه حقبة باذخة من تاريخ وأسرار الحياة السياسية والعكسرية في أفريقيا والسودان، إذ لم يكن قلبه أيضاً مضخة صديئة، مع ذلك توقف نبضه عن عمر ناهز 83 عاماً .
بعيد انتفاضة أبريل_ نيسان 1985 التي أطاحت حكم الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، تولى سوار الذهب مقاليد الحكم، بصفته وزيراً للدفاع، ووعد بتسليم السُلطة إلى حكومة مدنية مُنتخبة، ليبر بوعده بالفعل في سابقة نادرة، دون مماطلة بعد عام واحد فقط، حيث سلم مفاتيح القصر وشئونه، ومن ثم اعتزل السياسة وهو في ذروة مجده وبطوليته، مُنفقاً جهده وقته في العمل التطوعي الاسلامي منحازاً للانسان أين ما وجد، إلى حين وقت فداحه رحيله اليوم .
بمجرد أن نعته رئاسة الجمهورية كست غيمة من السواد العاصمة السودانية الخرطوم، إذ خيّم الحزن داخل البلاد وخارجها وعمّ الحداد مواقع التواصل الاجتماعي وأنحاءها بفعل رحيل حامل صخرة القضايا المصيرية، الرجل الذي قضى ردحاً من الزمان في خدمة قضايا المسلمين، مجسراً للفجوات بين العرب، باذلاً عمره للمستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، وهو يمضي في عباب بريقه الانساني بعد أن ضوّعت روحه السّلميّة الأرجاء قاطبة .
تقول سيرته المبذولة أنه وُلِد في العام ١٩٣٥م بمدينة أم درمان العاصمة التاريخية، ثم خفت به موجة الدراسة إلى مدينة الأبيض غرب السودان، أو العكس، وتفتحت سنوات عمره هنالك، قبيل أن يلتحق بالكلية الحربية في الخرطوم، التي تخرَّج فيها ضابطاً عام ١٩٥٥م؛ أي قبل سنة واحدة من استقلال السودان، كما نهل من العلوم العسكرية في بريطانيا والولايات المتحدة ومصر والأردن، واكتمل بذلك بنيانه العسكري والثقافي.
لم يكن عسكرياً منطوياً على روحه، يمشي بزهوٍ فوق الجماجم بحذاء ثقيل، وإنما كان من صفوة الوطنيين الكبار، أكبر من كونه سياسي يلعب بالبيضة والحجر، أو محض ثائر خط الشيب ما تجعّد من ذقنه وشاربه، ملتهماُ بقايا المأثر النابليونية، عوض أن يقتنص الفرص والأيديلوجيا.
يعتبر سوار الذهب قائداً لا يشق له غبار، يمتاز بالحكمة والتجرد ونكرات الذات، ولربما كانت تلك الصفات تميمة نجاته من داء التشبث بالكراسي والقصور، دون حتى أن يعباً بمحاولات اقصائيه المديدة من المجال السياسي، أو يصطنع له خصوماً يبادلهم كؤوس التأمر، وهو الجدير بكل منصب وجاه، لكنه فضل أن يُحظى باحترام الجميع داخل وخارج السودان.
كان حاضراً بقوة في كل المحافل المعنية بمناصرة القضية الفلسطينية، بجانب مشاركاته الفاعلة في مسيرة السلام والوفاق الوطني عبر مؤتمرات الحوار الوطني، والسلام والأمن، وامتد عطاءه إلي الأمتين العربية والإسلامية وقيادته للعمل الدعوي والطوعي، وكان أيضاً عضوء مجلس حكماء المسلمين، ورئيساً لمنظمة الدعوة الإسلامية تحديداً التي جعل منها بيتاً ومنطلقاً، يهب منها لقضاء الحوائج، وقضى فيها ردحاً من الزمان.
لم يكن الرئيس جعفر نميري وورفاقه في خندق اليسار يطيقون سوار الذهب، لأسباب مجهولة، ولذلك أبعد من الخدمة العسكرية في العام 1972 وتم إرساله إلى دولة قطر، حيث عمل بها مستشاراً للشئون العسكرية لدى الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني حاكم قطر آنذاك. وكان بمثابة قائداً للجيش والشرطة، حيث لا يزال إسمه مخطوطاً في تلك السجلات .
ليس ثمة مايدعو للإستغراب ، فالأبطال هنا والروايات هنالك ، كلاهما يتشابهون في المصير، مصير الرجال ومصير الأوطان ، ذلك الجندي الذي ما أن بارح أرض المعركة إلا وشق عليه طريق العودة ، تتناوشه الطبيعة، السماء ملبدة بالغيوم، والأرض جافة من العشب، جرعات الماء لا تكفي بالكاد لإطفاء عطش الظهيرة، لكم هو محظوظ كونه في عداد الأحياء، (الجندي العائد في ليلة إعصار). مقاربة الشخوص تفرز كما من العصارات السياسية ،عطفاً على نسج (يوسف خياط) تظل شخصية حارس الانتفاضة الأبريلية ورئيس الحكومة الانتقالية، المشير سوار الذهب هى الأوفر حظاً في الجدال والتباهي وقتما شُدت خاصرة الوطن بالأحداث والابتلاءات.

مُنِح المشير عَبد الرحمن محمّد سوَار الذّهب جائزة الملك فيصل للعام ٢٠٠٤م ، تقديراً لجهوده العظيمة من خلال رئاسته لمجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلاميَّة في السودان، التي شيَّدت كثيراً من المدارس والمسَاجد والمستشفيات، ومرَاكز الطفولة وملاجئ الأيتام في العال، وإلى تحلِّيه بالصّدق والوفَاء النادر، وهو بالفعل كما ينظر له كثير من السودانيين، إسم مكتوب بماء الذهب، ورجل نادر على طريقته، قال كلمته ومضى
أطفأ نيران الصراع بروحه الودودة وقاد المصالحات القبلية والسياسية دون كلل، ذلك الرجل البسيط في لغته وهندامه، تثير حركته جلبة غير معهودة ، تماماً منذ أن كان ترنيمة على الأفواه الشعبية ساعة الانتفاضة، وقمراً بين العساكر، ولكم أرادته الجماهير أن يعود للسُلطة، حين ركلها، لكنه لم يعد .

بقلم
عزمي عبد الرازق
عزمي عبد الرازق 2