موهبة نادرة تبحث عنها الشرطة فهل تملكها؟
على موقع بريطاني إعلان توظيف لأي شخص يظن أنه يمتلك موهبة فريدة من نوعها. لا يمتلكها إلا 2% من سكان الأرض، ويزداد الطلب عليها مع ارتفاع عدد كاميرات المراقبة. إنها وظيفة المتعرف الفائق .
ماذا يعني المتعرف الفائق ؟
هو ببساطة، إنسان يستطيع التعرف على الوجوه ولا ينساها. موهبة فطرية قابلة للإغناء بالتدريب الخاص، أثبتت نجاحها عندما فشلت البرامج الإلكترونية وأحرجت الشرطة البريطانية. ففي وقتٍ مبكر من هذا العام (2018)، حصل ضابط الدعم المجتمعي البريطاني الهادئ، أندي بوب، على جائزة رئيس الشرطة التي تُمنَح لموظفي الشرطة الذين يُظهِرون شجاعة استثنائية أو تفانياً ملحوظاً، أو كليهما.
في حالة بوب، تتعلق الجائزة ببراعة غريبة يتمتَّع بها. بين عامي 2012 و2017، تَعرَّف بوب على 1000 مشتبه بهم في قضايا جنائية. كان يقوم بذلك في بعض الأحيان عن طريق ربط الصور التي التقطتها كاميرات المراقبة بصور المشتبه فيهم الموجودة بقاعدة بيانات الشرطة. مهمة يقوم به كل صباح تقريباً، وفي أغلب الأحيان في أثناء ركوبه القطار. كان إنجاز بوب مذهلاً بكل المقاييس. خلال الفترة نفسها، كافح معظم زملائه للقيام بعُشر إنجازه، وبعضهم لم يستطع التعرُّف على أي مشتبه فيه على الإطلاق. عندما ذُكرت الأرقام التي تعرَّف عليها بوب لأحد كبار مسؤولي الشرطة، صُدِم، وقال: «غير معقول! خلال 20 عاماً في الخدمة، تعرَّفت فقط على نحو 30 مشتبه فيهم!».
قدرة خارقة لا يعرف صاحبها أنه يمتلكها أصلاً!
تعرَّف بوب على أشخاص مطلوبين جنائياً في جميع أنواع الجرائم الخطيرة، بدءاً من الاعتداء الجسدي والتعرض غير اللائق، وصولاً للسرقة. ونتيجة لبراعته في التعرُّف عليهم، أُلقِيَ القبض على هؤلاء الجناة وأُدينوا وزُجَّ بهم في السجن.
غير أنَّه في احتفالية توزيع الجوائز، شعر بوب بأنَّ هذا المكان ليس مكانه، كأنَّه لم يكن يستحق هذا التكريم. يقول لصحيفة The Guardian: «أرى ضباط الشرطة يحصلون على تكريم لقيامهم بأشياء مختلفة، وأرى أيضاً الحوادث التي ربما كانت محفوفة بالمخاطر. وأُفكِّر: هل أستحق التكريم الذي يُمنَح هنا؟ أنا فقط أتعرَّف على الناس في لقطات كاميرات المراقبة وأصفهم بالتفصيل في بيان سريع». لم يكن متأكداً مما إذا كان ينبغي الاحتفاء به لقدرته على تذكر الوجوه أو لا، وهي مهارةٌ يصفها بأنَّها «مجرد شيء أستطيع القيام به»، وهو فعل لا شعوري معتاد بالنسبة له كأنَّه يرمش بعينيه. ومع ذلك، غالباً ما يُذَكِّره رؤساؤه، وكذلك العلماء المهتمون بمسح ورصد دماغه، بأنَّ قلةً قليلة من الناس قادرون على فعل ما يقوم به.
إذ تشير تقديرات دراسة أعدتها University of Greenwich، إلى أن 2% فقط من السكان يمتلكونها. وهي قدرة لا يمكن تدريب نفسك للحصول عليها.
عقل بوب عبارة عن مكتبة صور ضخمة وتلقائية
غير أنَّ الإشارة إلى أنَّ براعته استثنائية أمرٌ يثير حفيظته، إذ يقول: «لا أعتقد أنَّني غير عادي أو أي شيء من هذا القبيل. أنا مجرد شخص محظوظ بأن أكون في وظيفة مُتَمكِّن منها». يُعد بوب، البالغ من العمر 40 عاماً، «مُتَعرِّفاً فائقاً»، وهو مصطلح صاغه ريتشارد راسل، الأستاذ المشارك في علم النفس بكلية غيتيسبرغ حالياً، في ورقةٍ بحثيةٍ عام 2009، لوصف «الأشخاص الذين يتمتعون بقدرات غير اعتيادية على التعرُّف على الوجوه».
من خلال تمتعه ببعض الميزات الإدراكية الاستثنائية، يستطيع بوب أن يحفظ آلاف الوجوه، وغالباً ما يلمح كلاً منها مرة واحدة فقط. إنَّه فعل لا شعوري، فعقله عبارة عن مكتبة صور ضخمة وتلقائية.
تحتفظ ذاكرته بصور الوجوه سنوات
بعض الوجوه يحتفظ بها سنوات. بإحدى الحالات، في أثناء قيامه بدوريات بالشارع الرئيسي في ميدلاندز الغربية، تعرَّف بوب على مشتبه فيه بعد عامين من رؤية صورة له. أُدين الجاني لاحقاً بالتعرض غير اللائق، وكان يظن أنَّه هرب من القبض عليه. ويتذكر بوب بانتظام، الوجوه التي شاهدها قبل 6 أشهر أو 12 شهراً، عندما يتلاشى الأمل في العثور على المشتبه فيه. ويعتمد الضباط على ارتكاب الأشخاص الجرائم نفسها مرةً أخرى، لكي يلقوا القبض عليهم. يقول غاريث موريس، الذي كان يعمل في وقتٍ ما رقيبَ شرطة مع بوب، وهو الآن كبير المشرفين في شرطة غلوسترشير: «من دون تدخل أندي، كان من المؤكد أنَّ بعض هذه الحالات لن تُحَل».
ومكّنته من الزج بالأشرار والعثور على مفقودين!
طيلة حياته لم يكن لدى بوب أي إدراك لموهبته. ولم يظهر أبوه، وهو فني معماري، ولا أمه التي تعمل سكرتيرة، الموهبة نفسها. عندما كان طفلاً، يتذكر بوب أنَّه كان يشاهد التلفاز ويستطيع تذكر أسماء الممثلين الغامضين الذين كان يشاهدهم مرة واحدة في خلفية برامج أخرى.
وهي مهارة اجتماعية حاذقة، لكنَّها ليست من تلك المهارات التي تُبنى عليها مهنة بأكملها. عندما انتهى بوب من دراسته، بدأ العمل في متجر، ثم بشركة الهندسة المعمارية نفسها التي عمل فيها والده مدير مكتب. كان جيداً في تذكُّر وجوه الأشخاص الذين قابلهم، لكنَّه «ظنَّ فقط أنَّ أي شخص آخر يمكنه فعل ذلك أيضاً».
يستطيع التعرف على الوجوه حتى لو كانت الصور مشوشة
التحق بوب بالشرطة في عام 2005، وظلَّ شخصية غير مميزة حتى عام 2011، يتذكَّر موريس أنه حين التقاه، «أحضر لي بوب صورة، وقال لي إنَّه يريد أن يصطحب ضابطاً ويذهب للعثور على الرجل الذي في الصورة ويلقي القبض عليه». كانت الصورة التي لاحظها بوب في نشرة الشرطة، تُظهِر رجلاً مطلوباً، لارتكابه جريمة اعتداء، لكن الصورة كانت مشوشة ومُلتَقَطَة من زاوية صعبة. كان موريس متشككاً: «قلت له: لو كانت أمي في هذه الصورة لكان من الصعب عليَّ التعرُّف عليها!»، وكان متردداً. إلا أنَّ بوب كان واثقاً، وتبيَّن بعد ذلك أنَّه مُحقٌّ. انهار المشتبه فيه بمجرد القبض عليه. يقول موريس: «اعترف حينها ثم اعترف لاحقاً أيضاً».
لكن هناك شكوك في هذه القدرة البشرية مقارنةً ببرامج التعرف الإلكترونية
أُصيب موريس بالذهول عندما تعرَّف بوب بشكل صحيح على مشتبه آخر، وغيره من المشتبه فيهم بعد ذلك، ولم يُظهِر أي تباطؤ في مهارته، وأدركوا أنَّ براعته استثنائية. ومنذ ذلك الحين، عندما يتحدث موريس مع مسؤولين آخرين في أقسام الشرطة الأخرى، كان يبلّغهم بمهارة بوب، ويعرض خدماته لهم.
لكنَّ الإقبال على خدماته كان محدوداً. كان موريس يقلق في بعض الأحيان من أن يخسر بوب مهارته. فهذا الشخص القادر بطريقة ما، على التعرُّف على المئات من المشتبه فيهم المطلوبين جنائياً، غير مستغَل الاستغلال الأمثل. يقول موريس: «فكرنا جميعاً في هذه المهارة. هل هناك تطبيق آخر يجيدها؟».
إلى أن ظهر المتعرِّفون الفائقون من أمثال بوب في الأخبار مؤخراً
في سبتمبر/أيلول 2018، نجح اثنان منهم في التعرُّف على الرعايا الروس الذين اتُّهِموا في وقتٍ لاحق، في حادثة تسميم نوفيتشوك بغاز الأعصاب في مدينة سالسبوري، بعد أن راقبوا ساعاتٍ، صور كاميرات المراقبة. في أغسطس/آب، أعلنت شرطة العاصمة أنَّها ستتخلى عن استخدام برامج التعرُّف على الوجه في كرنفال نوتينغ هيل لهذا العام. وتبين أنَّه في السنوات السابقة خلطت البرامج بين الرجال والنساء، وهو خطأ محرج. وقالت الشرطة إنَّها ستنشر بدلاً من ذلك متعرِّفين فائقين، اعتبرتهم أقدر على تحديد أوجه مثيري المشاكل بدقة وسط الحشود الكثيفة.
الشرطة البريطانية تتبنى على مضضٍ مهاراتَهم في التحقيق
التعرُّف الفائق ليس ظاهرةً جديدة. بعضنا أفضل من غيره في استدعاء الوجوه أطول فترة يستطيع تذكرها. لكنَّ هذه القدرة لم يُعترف بها إلا في الآونة الأخيرة، على أنَّها إحدى مهارات التحقيق المهنية، وقد تبنتها الشرطة على مضض.
أدى ذلك إلى شعور المدافعين عن التعرُّف الفائق باستياء كبير، ومن ضمنهم جوش ديفيز، المحاضر النفسي بجامعة غرينتش؛ وميك نيفيل، الذي كان رجلاً عسكرياً في السابق، وكبير مفتشي المباحث سابقاً بجهاز الشرطة البريطانية. إذ أنشأ الرجلان أول وحدة شرطية في المملكة المتحدة مخصصة للمتعرِّفين الفائقين في عام 2013.
نيفيل فخور بإنجازات زملائه ومتحمس لمنافسة وحدة الطب الشرعي!
يتحدث نيفيل، وهو من مقاطعة لانكشاير البريطانية، بطريقة آمرة وفظة. اختار لوحدته 6 ضباط، وهم مجموعة مختلطة مِمَّن سجلوا درجات عالية في اختبارات التعرُّف على الوجه. يحصل المُتعرِّفون الفائقون على لقبهم بعد أن يجتازوا بتفوق، امتحانات مثل اختبار كامبريدج في ذاكرة الوجه، والذي يُظهر فيه بوب براعة فائقة. ساعد فريق نيفيل في إضفاء الصفة الرسمية على التعرُّف الفائق في عمليات التحقيق التي تجريها الشرطة. وفي عام 2016، قام الفريق بأكثر من 2500 عملية تحديد هوية أساسية، نتجت عنها اتهامات أو تحذيرات، أو غيرها من الإجراءات المعروفة في لغة الشرطة بشأن جرائم تشمل القتل من الدرجة الأولى. أجرت إدارات الطب الشرعي، متمثلة في قسم تحليل الحمض النووي والبصمات، نحو 4500 عملية تعرُّف إجمالاً في العام نفسه، وهو معدل نيفيل مغرم بالتنويه عنه تكراراً، لأنَّه يؤكد النجاح النسبي لوحدته.
لكن الشرطة لم تتبنَّ فكرته بضمها إلى الطب الشرعي
منذ عام 2013، دافع نيفيل عن غايته بضرورة إدراج عمليات التعرُّف الفائق، تحت مظلة الطب الشرعي. لقد أصبح تدريجياً موثوقاً به مثل عمليات الطب الشرعي القائمة، كما يقول نيفيل، فلماذا لا يُدرج ضمن عملياته؟
لكن الشرطة البريطانية ظلَّت حذرة وغير مستعدة للمراهنة على عملية تحديد الهوية، التي لا تزال حديثة العهد ولا تتمتع بقوانين محددة للممارسة التحليلية. لم تتلقَّ وحدة نيفيل التمويل أو الدعم الذي كان يتوقعه. وفريقه، الذي لا يزال صغيراً، لم يُطلَب للعمل إلا لماماً، ولم تُنشأ أي وحدات إقليمية، على الرغم من وجود أدلة على وجود المُتعرِّفين الفائقين في سائر جهاز الشرطة. يعمل بوب، على سبيل المثال، في قسمٍ اسمه Safer Travel، ولا يستخدم لقب «المُتعرِّف الفائق». ترك نيفيل الشرطة العام الماضي (2017)، دون تحقيق غايته. لا يزال يشعر بالمرارة، إذ يقول: «لقد كانت كارثة مطلقة؛ لم يتبنوا الفكرة!».
فأسَّس منظمة عالمية لاستقطاب هذه المهارات
شارك نيفيل، العام الماضي (2017)، في تأسيس منظمة Super Recognisers International، وهي منظمة خاصة تعيِّن قائمة من المُتعرِّفين الفائقين المدنيين -أحدهم قارع طبول ومُسوِّق سيارات- لخدمة عملاء خاصين، مثل على الأقل أحد أندية كرة القدم، وللمفارقة قوات الشرطة. كيني لونغ هو كبير مسؤولي العمليات بالمنظمة، وهو أحد المُتعرِّفين الفائقين الذي كان عيَّنه نيفيل في شرطة العاصمة. كلاهما على علاقة بجمعية المُتعرِّفين الفائقين Association of Super Recognisers التي أسسها، في مايو/أيار 2018، الاستشاري الأمني غيلي كرايتون، للمساعدة في الترسيخ للتعرُّف الفائق كأداة من أدوات التحليل الجنائي. بوب واحد من 20 رجلاً وامرأة اعتمدتهم الجمعية، على الرغم من تقدير نيفيل وجود الآلاف، ومنهم المئات في جهاز الشرطة وحده. ويقول نيفيل إنَّ معظمهم ليس لديهم فكرة عن إمكاناتهم، «عليك أن تسأل نفسك: لماذا لا تستخدمهم الشرطة بدرجة أكبر؟».
وكلما ازدادت صور المراقبة ازدادت الحاجة لمن يتعرف عليها
تقدم الوكالة مجموعة خدمات، منها البحث عن أشخاص مفقودين، ومطابقة الصور، وتحليل صور كاميرات المراقبة، واستشارات، وتدريب، وغيرها الكثير من الخدمات. وتشير الوكالة إلى وجود أكثر من 5.9 مليون كاميرا في بريطانيا وحدها، مع توقعات باستمرار ارتفاع العدد، لتطور تقنيات المراقبة وانتشارها. ويعتبر القائمون على الوكالة أنه كلما ازداد عدد الصور المتاحة، ازدادت الحاجة لمحترفين في متابعتها والتعرف على أشخاص مطلوبين أو مفقودين. يبلغ سعر الدورة التدريبية 495 جنيهاً إسترلينياً، وهي تتم على أيدي خبراء من الشرطة والجيش والمخابرات البريطانية، أو حتى من هيئات قطاع خاص.
طبيب نفسي اكتشف بالصدفة هذه المقدرة فأجرى أول بحث عنها في 2009
عندما صادف الطبيب النفسي ريتشارد راسل لأول مرة موضوع المُتعرِّفين الفائقين في عام 2009، كان يقوم ببحث عن عمى التعرُّف على الوجوه، وهو اضطراب يصادف فيه الأشخاص صعوبة كبيرة في التعرُّف على الوجوه، وأحياناً الوجوه المألوفة لهم. عندما بدأ يسمع من أشخاص مقتنعين بأنَّهم يمتلكون مهارات استثنائية للتعرُّف على الوجوه، بدأ في اختبار قدراتهم أيضاً. قال له أحد المشاركين في البحث: «لا يهم كم سنة مرت، إذا كنت رأيت وجهك من قبل سأكون قادراً على التعرُّف عليه». كان بحث راسل أول ما طرح موضوع المُتعرِّفين الفائقين للعالم، ولم يُكتَب عنه إلا عددٌ قليلٌ من الأبحاث منذ ذلك الحين.
التفسيرات عمرها أقل من 10 سنوات والأطباء يبحثون عن سر هذه الموهبة
الدراسة الأكاديمية عن الموضوع لم يتعدّ عمرها عقداً من الزمان، ورغم أن الأبحاث مثيرة فإنها لا تزال محدودة. تشير الدلائل إلى أنَّ القدرة على التعرُّف الفائق قد تكون وراثية، أي أنَّ هذه المهارة متأصلة، على نحوٍ ما، لدى 1-2% من الأشخاص. لكن لا أحد يعرف حقاً كيف يقوم أحد المُتعرِّفين الفائقين بما يفعلونه وما هو الذي يفعلونه. عندما طلبت من بوب أن يفسِّر هذه العملية من جانبه، قال: «الطريقة التي تسير بها عملية التعرُّف غريبة، إذ لا يوجد نظام لها»، ثم هزَّ كتفه مستهجناً.
وهو ما يثير قلق أجهزة الشرطة في اعتمادها مصدراً قانونياً
ومع قلة المعلومات المتوافرة عن القدرة على التعرُّف الفائق، أضحى موضوع توظيفها في العمل الشرطي أمراً مثيراً للجدل. وينصح الأكاديميون بالحذر من هذه القدرة، وهو ما يُفسِّر تردُّد أجهزة الشرطة في تبني التعرُّف الفائق كإحدى أدوات التحليل الجنائي ضمن الطب الشرعي. يقول ديفيد وايت، المحاضر في جامعة نيو ساوث ويلز، في سيدني: «الأطباء الشرعيون يقومون بالمهمة بطريقة تحليلية. ولا يتبِّع المُتعرِّفون الفائقون نفس النهج. إن ما يفعلونه يعتمد على حدسهم وقوة ملاحظتهم، وهي عملية ينظرون فيها إلى شخص واحد ثم ينظرون إلى شخص آخر ويتخذون قراراً بسرعة كبيرة». لذلك فالقدرة التي يمتلكونها لا ينازعهم فيها أحد. وتابع وايت قائلاً: «إنَّها قدرة دقيقة للغاية، فوفقاً للبيانات المتوفرة لدينا، دقة التعرُّف الفائق أعلى بنسبة 20% عن المتوسط الذي يصل إلى 70% تقريباً، لكن هذه النسبة لا تزال تترك 10% وهي تمثل نسبة عالية من الأخطاء».
..والأكاديميين.. خوفاً من إساءة الشرطة في استخدامها وتوجيه الاتهام ظلماً
يدرس وايت، وهو في الأصل من إدنبره، الإدراك البصري للأشخاص منذ عقد من الزمان، لكنَّه لا يزال يعتقد أنَّ «هناك الكثير من الفجوات التي يجب سدها في معرفتنا». كيف تقيس قدرة المُتعرِّفين الفائقين؟ كيف تحدد دورهم في سيناريوهات الحياة الحقيقية؟ هل هم جيدون جداً في الاختبارات المعملية؟ يشعر وايت، مثله مثل زميلته آنا بوباك، وهي باحثة مساعدة في علم النفس في جامعة ستيرلنغ بالقلق من إساءة استعمال الشرطة لهذه القدرات، لاسيما في حالات المحاكم، حيث تعتمد هيئة المحلفين في كثير من الأحيان على إدلاء شهود العيان بشهاداتهم. يقول وايت: «هذا النوع من الأدلة تبين أنَّه مقنع بشكل خاص. ومن المحتمل أن يكون أكثر إقناعاً عندما يرافقه مصطلح مُتعرِّف فائق». فهذا اللقب يحمل دلالة بالقوة والحصانة على حد قوله. تقول بوباك: «لا أحب حقاً مصطلح «مُتعرِّف فائق». إنَّه يحمل دلالة بأنَّهم معصومون من الخطأ».
ولكن ماذا لو كان المشتبه به فلقة من توأم!
وعند سؤال بوب عمَّا إذا ارتكب خطأ، أومأ برأسه وقال: «أنا أنظر إلى الجماد وأظن أنَّه شخص. أولاً وأخيراً أنا بشر وأرتكب الأخطاء. هل يحدث ذلك كثيراً؟ ليس كثيراً». ثم روى قصة حصلت قبل بضع سنوات، تعرَّف بوب على مشتبه به تصادف أنَّ له توأماً متطابقاً. عندما استُدعِيَ بوب كشاهد في المحكمة، سأله الادعاء كيف يمكن أن يكون متأكداً من أنَّه تعرَّف على الأخ الصحيح. خلال عملية التعرُّف لا يركز بوب على تفاصيل وجه معينة، ولنقل شامة مثلاً، ليضمن أنَّ نفس التفاصيل سوف تظهر في نفس المكان في الصور الأخرى. بل مقاربته «كُليَّة»، إذ تتسلَّل الوجوه بأكملها إلى خبايا عقله وتستقر بها لحين استدعائها. رد بوب على وكيل النيابة قائلاً: «لا أعرف. يمكنني فقط التعرُّف عليه». لم يكن رده مُقنِعاً بما فيه الكفاية، وأُفرِجَ عن المشتبه به. قال بوب بعدها: «إنَّه أمرٌ مُحبِط. كنت أود أن أكون قادراً على أن أشرح لهم كيف عرفت أنَّ هذا هو الشخص المشتبه به، لكنها عملية غريبة. أنا حقاً لا أستطيع أن أصف كيف تتم هذه العملية».
كيف نتذكر الوجوه وهل هناك حد لهذا الاستدعاء؟
اختبر نفسك من خلال هذا الامتحان الذي أعدّته جامعة Greenwich:
رابط الامتحان
كم عدد الوجوه التي نستطيع تذكُّرها؟
في الشهر الماضي، أكتوبر/تشرين الأول، نشر فريق بحثي في جامعة يورك بحثاً قُدِّر فيه أنَّه يمكننا في المتوسط التعرُّف على ما يقرب من 5 آلاف وجه مختلف. البشر خبراء في التعرُّف على الوجوه المألوفة، رغم أنَّ البعض منَّا أكثر خبرة من غيرهم. أشار الباحثون إلى أنَّ «الاختلافات الفردية كبيرة». قد يتمكن شخص واحد من تذكر 10 آلاف شخص، بينما قد يكون الآخر قادراً فقط على التعرُّف على ألف شخص. اعتبر الدكتور روب جينكينز، رئيس الفريق البحثي، متوسط التقديرات متحفظة. وقال: «لم نعثر بعد على الحد الأقصى لعدد الوجوه التي يمكن للدماغ التعامل معها».
كم مرة نقوم بهذه العملية؟
يتفق علماء الأعصاب عموماً على أنَّ التعرُّف على الوجه يحدث في الفص الصدغي، وهي منطقة في المخ فوق الأذن مباشرة، وأنَّ العملية مُعقَّدة. تشير دراسة أجريت عام 2017 في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، والذي راقب تعرُّف قرود المكاك على الوجوه، إلى أنَّ الخلايا العصبية في الفص الصدغي تتفاعل مع جوانب مختلفة من الوجه. بعضها يتعامل مع لون العين، على سبيل المثال، في حين يتفاعل البعض الآخر مع المسافة بين العينين. وعندما تُدمَج هذه المعلومات معاً، تسمح لقرد المكاك بخلق صورة كاملة، حيث ينشأ الوجه كمجموع للأجزاء. يتطلب الأمر عدداً قليلاً نسبياً من الخلايا العصبية لخلق صورة كاملة، مما قد يُفسِّر سبب قدرتنا على تذكُّر الكثير من الوجوه.
هل الأمر له علاقة بعمر الإنسان؟
يمكن أن تعتمد المسألة على عمرنا. اختبر باحثو جامعة يورك مجموعة كان متوسط أعمارها 24 عاماً، لكنَّ العلماء لم يكونوا متأكدين مما إذا كان التقدم في السن يؤثر على هذه القدرة. قال جينكينز: «سيكون من المثير للاهتمام معرفة ما إذا كانت هناك سن ذروة لعدد الوجوه التي نعرفها. ربما نُراكِم الوجوه طوال حياتنا، أو ربما نبدأ في نسيان بعضها بعد أن نصل إلى سن معينة».
العربي الجديد