رأي ومقالات

التاريخ ليس نهرا لا نسبح فيه سوى مرة واحدة.. الحصار المنسي للعاصمة السودانية الخرطوم

الكاتب الفرنسي إتيان بارلييه أباح لنفسه اللجوء في بعض فصول روايته “الخرطوم محاصرة” إلى الخيال ليبتكر شخصيات فرنسية، ونمساوية، وبريطانية عاشت أشهر الحصار الطويلة، وتابعت أحداثه الدامية لحظة بلحظة.

في رواية تاريخية جريئة صادرة حديثا باللغة الفرنسية، يروي الكاتب إتيان بارلييه قصة الحصار المنسي للعاصمة السودانية الخرطوم، مستذكرا ذلك الصراع الدموي الذي مهد الطريق لإنهاء الاستعمار بالسودان كما ساهم في تأجيج كل الحركات الوطنية والثورية التي سوف تعيشها البلدان الأفريقية خلال النصف الأول من القرن العشرين.

تحت عنوان “الخرطوم محاصرة” تأتي رواية الكاتب الفرنسي إتيان بارلييه المولود عام 1947، والذي رغم أنه اختار أن يكون وفيا للوثائق التاريخية، فإن هذا الكاتب الذي لا يخفي إعجابه بألبير كامو، وعنه وعن أعماله كتب أطروحة هامة، أباح لنفسه اللجوء في بعض الفصول إلى الخيال ليبتكر شخصيات فرنسية، ونمساوية، وبريطانية عاشت أشهر الحصار الطويلة، وتابعت أحداثه الدامية لحظة بلحظة.

ومن بين هذه الشخصيات يمكن أن نذكر عالم الآثار النمساوي كارل-ربتشارد ليبوشوتز الذي جاء إلى السودان بحثا عن آثار حضارة أفريقية قديمة، وفرنسيًّا عاش معارك “كومونة” باريس، وترك بلاده بحثا عن مغامرات مثيرة في مناطق بعيدة عن “أوروبا البيضاء المتحضرة”.

وهناك أيضا امرأتان بريطانيتان متحررتان من نواميس الطبقة الأرستقراطية، ومفتونتان بالمغامرات المثيرة في “الأصقاع السوداء”، ومن هذا الجانب يمكن القول بأن هذه الرواية تشبه إلى حد ما رواية “الطاعون” لألبير كامو التي يرسم فيها صورة مرعبة لمدينة يحاصرها الطاعون الجارف. كما تشبه أيضا رواية “حرب نهاية العالم” التي يروي فيها ماريو فارغاس يوسا أحداث حركة تمردية في البرازيل في نهاية القرن التاسع عشر قادها رجل دين متطرف ضد أول جمهورية تجرأت على فصل الدين عن الدولة.
حركات تمرد

في مجملها، تروي “الخرطوم محاصرة” الصادرة مؤخرا عن دار “فيبوس” الفرنسية -رواية ضخمة بـ528 صفحة- أحداثا مهمة ومثيرة وسمت تاريخ السودان في القرن التاسع عشر، ففي عام 1819 غزا محمد علي السودان لتتولى شؤونها إدارة تركية فاسدة وظالمة، فرضت على الشعب ضرائب ثقيلة بسببها فر المزارعون الصغار من قراهم على ضفاف النيل ليستقروا في مناطق بعيدة مثل كاردفان ودارفور،
ورغم ذلك ظل العساكر الأتراك يطاردونهم، ويخضعونهم للمزيد من المظالم.

وبسبب ذلك، ظهرت في مناطق مختلفة من البلاد حركات تمردية ضد الإدارة التركية، وقد تمكن الإمام المهدي الذي اشتهر بورعه ووفائه للتعاليم الدينية من توحيد تلك الحركات ليصبح زعيما وقائدا لها، ولما اتسعت رقعة التمرد أرسلت الإدارة التركية عساكر للقضاء عليها، وفي نهاية المعركة التي حدثت في صيف عام 1881، كان النصر لأنصار المهدي. وقد حرض ذلك الانتصار الهائل الإمام المهدي على توسيع ساحة المعركة، وكسْبِ أنصار في كامل أنحاء البلاد، وحوله شاعت كرامات كثيرة تشيد ببطولاته، وبحكمه، وبوطنيته، وبإخلاصه للتعاليم الدينية التي كان يبشر بها.

وعندما شعر بخطر تلك الحركة التمردية التي كانت تزداد اتساعا يوما بعد آخر، قرر الخديوي إسماعيل حاكم مصر آنذاك، إرسال الجنرال البريطاني الشهير تشارلز غوردون إلى السودان لإخماد التمرد.

الرواية تثبت أن الجيوش الصغيرة التي تحركها “العصبية الدينية” يمكن أن تتغلب على الجيوش المدججة بأحدث الأسلحةالرواية تثبت أن الجيوش الصغيرة التي تحركها “العصبية الدينية” يمكن أن تتغلب على الجيوش المدججة بأحدث الأسلحة

وكان هذا الجنرال المولود عام 1843 قد أصبح بطلا في بلاده بعد أن شارك في حروب عديدة مثل حرب القرم بين روسيا القيصرية والإمبراطورية العثمانية، كما أنه شارك في حرب “الأفيون” الصينية التي اندلعت في عام 1860.

لذا كان الخديوي إسماعيل على يقين بأنه، أي الجنرال غوردون الذي كان المصريون يلقبونه بغوردون باشا، قادر على القضاء السريع على ثورة الإمام المهدي، لكن الأحداث سرعان ما أثبتت خطأ توقعاته، كما أثبتت أن الجيوش الصغيرة التي تحركها “العصبية الدينية” بحسب تعبير ابن خلدون يمكن أن تتغلب على الجيوش النظامية المدججة بأحدث الأسلحة، والتي يقودها عسكريون خاضوا أشد المعارك دموية وضراوة.
النجم المذنب

بدأت المواجهة بين الجنرال وبين الإمام الزاهد عند ظهور النجم المذنب في سماء السودان في صيف عام 1882، وواصفا الجنرال وهو متوحد بنفسه مفكرا في حربه القادمة، كتب إتيان بارلييه يقول “في الصمت المهدّئ للمشاعر، لكنه مثير للمخاوف أيضا للنجمة الجديدة المذنبة، قرأ الباشا (يعني الجنرال غوردون) التحذير، هو يعرف المهابة التي يتمتع بها المهدي، وهو يعير لذلك اهتماما كبيرا، وقد قرر أن يحصّن المدينة، وهو عمل يبدو له غريبا وغير واقعي، إذ كيف يمكن تحصين مدينة ماتت حال مولدها”.

ويواصل بارلييه “نعم، مدينة من الطين، خارجة رخوة وخشنة من الصحراء، مدينة تشوه ملامحها العواصف الرملية في بضع ساعات، وفيها تُسقط الأمطار الغزيرة المنازل، وتحول الشوارع إلى قنوات نتنة الرائحة؟ وبالأحرى، ما هو الشيء الذي يخشى منه؟ ثمة حصون تدافع عنا، وهناك مجريا النيل، وصحيح أن المدينة تضيع في الرمال الرخوة في الجنوب، ويمكن أن يخترق بطنها، لكن ليس علينا أن نفكر في ذلك، نحن هنا لكي نعيش ولكي نستمتع، يقول الأقوياء، التجار، والبيض، وأنا، الجنرال العظيم”.

واستمر الحصار الذي فرضه الإمام المهدي على الخرطوم” الفاسدة” عام 1884 سنة كاملة، وفي النهاية قتل “الجنرال العظيم” ودخل الإمام الزاهد المدينة منتصرا وكان ذلك في الخامس والعشرين من شهر يناير 1885، وبعد مقتل غوردون باشا ببضعة أشهر توفي الإمام المهدي.

ومن خلال رواية “الخرطوم محاصرة”، أراد إتيان بارلييه أن يوحي لنا أن ثورة المهدي من أجل استقلال السودان مهدت لكل الحركات الوطنية والثورية التي سوف تعيشها البلدان الأفريقية خلال النصف الأول من القرن العشرين، والتي انتهت بحصول هذه البلدان على استقلالها الوطني، كما أراد أن يوحي لنا من خلال الأحداث أن التاريخ ليس نهرا لا نسبح فيه سوى مرة واحدة، بل هو يعيد نفسه.. لذا يمكننا أن نسبح فيه مرتين، وربما أكثر من ذلك.

حسونة المصباحي-كاتب تونسي
صحيفة العرب /بريطانيا