مقالات متنوعة

فصلٌ وتفريق بين مسألتين

ما يبينه كثيرون في هذه الأيام من بيان الحكم الشرعي في المشاركة في أعياد الكريسماس ورأس السنة وتحذير المسلمين من ذلك يبدو أنه أشكل على البعض ففهم خطأً أن ذلك دعوة للفتنة !! وهذا من العجيب، فما دخل هذا بذاك ؟! خاصة وأن من يبيّن هذه المسائل وأنا واحد منهم نبيّن باستمرار المنهج الإسلامي الصحيح في التعامل مع أهل الملل الأخرى والديانات غير الإسلامية وكذا مع المسلمين أهل المخالفات والواقعين في الأهواء والمعاصي وأن السبيل إلى ذلك هو المنهج القائم على الوسطية والاعتدال وبيان الحق بدليله، وتحري العلم والعدل، والمناقشة الموضوعية، كما أننا بفضل الله تعالى نردُّ باستمرار على جماعات التكفير والإرهاب ونحذّر من مسلك الخوارج في التعامل مع المخالفين، وندعو لسبيل أهل السنة والجماعة القائم على معرفة حقوق المستأمنين والمعاهدين وكافة المدعوين.
لما بدا أن البعض – بجهل منه – قد خلط بين الأمرين وفهم أن عدم الدعوة إلى عدم تهنئة النصارى بأعيادهم وعدم المشاركة فيها يعني إثارة الفتن كان من المناسب إلقاء الضوء بموجز يزول به هذا الالتباس عند من أشكل عليه الأمر، فأقول:
إنّ الإسلام دين جاء بعقيدة وشريعة وأحكام من الله خالق هذا الكون وخالق الإنسان، وبعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وأوجب عليهم الإيمان به، وبذلك قد نسخت الأديان التي قبل الإسلام، والحكم الشرعي الثابت بالنص النبوي أنّ كل من لم يؤمن بهذا الدين فهو كافر، ولن يتقبل الله من أحد ديناً يتقرب به إلا إذا كان مسلماً، قال الله تعالى : (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)
وإن نبي الله عيسى عليه السلام بعد نزوله في آخر الزمان سيكون على هذه الشريعة، ويصلي كما صلى النبي عليه الصلاة والسلام ويهل بالحج والعمرة من فج الروحاء، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي) ، هذا مما يعتقده المسلمون، ومع ذلك:
فإن الإسلام قد كفل لغير المسلمين أموراً كثيرة، ولم يكره أحداً على الدخول فيه (لا إكراه في الدين) وحدّد كيفية تعامل المسلمين مع غيرهم – خاصة إذا عاشوا في بلد واحد – ويتمتع غير المسلمين بالمساواة أمام القانون في الحقوق، وهو أمر رباني لا يحتمل مساومة، يقول تعالى :(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).. فهذه الآية الكريمة تأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، مسلمين أم غير مسلمين، كما تقضي بأن يلتزم العدل في الحكم بين الناس كلهم، دون تمييز، بسبب اختلاف الدين، أو العنصر، أو الثقافة، أو الجنس، أو اللون. والمؤمنون مأمورون ديناً أن يكونوا قوامين بالقسط في كل موقف، لقوله تعالى :(يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
وفي الفقه الإسلامي مصطلح : (أهل الذمة) وهو مما لا حرج فيه، فإن الذمة في لغة العرب تعني (العهد والميثاق) قال تعالى: (لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة) أي عهد، فالدولة الإسلامية تبرم عهداً مع غير المسلم (أهل الكتاب ويدخل معهم المجوس في قول الجمهور) إذا عاشوا بين المسلمين، وبموجب هذا العقد، يصير غير المسلمين كالمسلمين، في حرمة الدماء، والأموال، يقول صلى الله عليه وسلم :(من قتل معاهداً لم ير رائحة الجنة،) ، ويقول في حديث آخر :(ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة). وإن الدولة الإسلامية تحميهم، وأحياناً تسقط أخذ الجزية ولا تأخذها منهم إذا لم توفر الحماية لهم، وكل ذلك محفوظ بنماذجه المشرقة في تاريخ المسلمين، لا سيما ما كان في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
واستقر هذا الفقه يسود في العهد النبوي، وعهد الخلافة الراشدة، واستمر إلى زمن المماليك، والدولة الإسلامية. واتساقاً مع موقف المسلمين الثابت، في حماية غير المسلمين، من أهل ذمتهم، في دمائهم، وأموالهم، أنه لما أراد أحد سلاطين التتار أن يطلق سراح أسرى المسلمين، دون النصارى، اعترضه شيخ الإسلام ابن تيمية، لأنه يرى أن يسري في حقهم ما يسري في حق المسلمين لأن لهم عهد وذمة، وأنه إن لم يطلق سراحهم، جاهد المسلمون، واستأنفوا القتال، لافتكاكهم .. ولابن تيمية رسالة مشهورة بهذا الخصوص ، اسمها :(الرسالة القبرصية).
وعقد الذمة لم يشرع ليذل به المسلمون الكفار وإنما ليتركوا القتال ويعيشوا بين المسلمين فيسهل عليهم دخول الإسلام بمعرفته عن قرب دون تشكيك أوتشويه، وما أكثر التشويه المنظّم الذي يحارب به الإسلام في زماننا!!! وأما اللبس المعين فإن الإسلام حدد أحكاماً لتعامل المسلم مع المسلم وأحكاماً لتعامل المسلم مع غير المسلم كالسلام وغيره، ومن هذا الباب كانت الحاجة إلى التمييز حتى لا يختلط المسلم بغيره مما لا يتم معه تطبيق الأحكام.
وإن من الطبيعي أن جهل بعض المسلمين في بعض الأماكن قد ينتج عنه معاملة خاطئة لغيرهم، وكل عاقل يعلم أنه لا ينبغي أن تنسب تصرفات الأفراد للكل، خاصة إذا كان الإسلام هو عقيدة وشريعة وأحكام مقررة ومدونة، فيجب الرجوع إليها لمعرفة المقرر عند المسلمين والمشروع ولا يكون الرجوع إلى تصرفات الأفراد والاكتفاء بها في ذلك .
وفي ظل التطبيق الصحيح للإسلام جاءت شهادات المنصفين من النصارى وغيرهم بما عاملهم به المسلمون، وأنقل للتمثيل هذه الجزئية :
من نماذج ذلك ما شهد به (السير توماس آرنولد) في كتابه :(الدعوة إلى الإسلام) الذي كتب فيه عن تاريخ نشر الدعوة الإسلامية في أرجاء العالم وكيف أن دعاة الإسلام نشروا دعوتهم بين أقوام عرفوا بالشدة والخروج على كل نظام أو قانون حتى أسلموا، وصاروا دعاة يهدون غيرهم.
يقول : (لم نسمع عن أية محاولة مدبرة، لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين).
ويزيد آرنولد في بيان تسامح المسلمين فيقول: (لا يسعنا إلا الاعتراف، بأن تاريخ الإسلام، في ظل الحكم الإسلامي يمتاز ببعده بعداً تاماً عن الاضطهاد الديني).
وهذه شهادة منصفة أخرى، يؤديها (ول ديورنت)، في كتابه :(قصة الحضارة)، حيث يقول :(لقد كان أهل الذمة المسيحيون والزردشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم، ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من أداء ضريبة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله). ولو رغبت في النماذج من هذا القبيل فأحتاج إلى مساحة كبيرة، فليت شعري أين المنصفون ؟!! وكيف لا تكون شهادتهم كذلك والله تعالى قد أمر المسلمين بحسن التعامل والتأدب مع غيرهم يقول تعالى :(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)
فهذه الآية تقرر أسس التعامل مع غير المسلمين من الذين ذكر أوصافهم الله تعالى في الآية الكريمة، إنها البر، والقسط إليهم، بكل ما يقتضيه معنى البر من الخير، والقسط من عدل، وفاصلة الآية :(إن الله يحب المقسطين)، تدعو كل مسلم، أن يسارع في تنفيذ ما يحبه الله.
يقول تعالى :(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً) ، فقد جاءت هذه الآية تأكيداً عملياً لما يأمر به القرآن، من الحكم بين الناس بالعدل، دون تفرقة بينهم، بأي سبب من الأسباب. وهنا تبين الآية، أن الله تعالى قد أنزل كتابه القرآن الكريم، بالحق، على رسوله صلى الله عليه وسلم، ليحكم بين الناس، بما هداه إليه الله تعالى.. والآية تدعوه صلى الله عليه وسلم ألا يكون محامياً، ولا مدافعاً، عن الخائنين للأمانات، ممن يلوون ألسنتهم بالكذب، حتى يقضي لهم بظاهر شهاداتهم.
وفي أسباب النزول، إشارة إلى أن بعض الأنصار، رمى أحد اليهود بغير حق، بتهمة ظالمة، فجاءت هذه الآية وما بعدها، في براءته.. آيات تتلى أبد الدهر، تؤصل للعدالة، وتؤكدها بين الناس كلهم، دون تفرقة، بسبب اختلاف الدين، أو العنصر، أو القبائل، أو الشعوب.
ويقول الله تعالى : (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم)
والأحكام الشرعية التي وردت في دين الإسلام في شأن التعامل مع أهل الملل الأخرى والديانات وما اختص به أهل الكتاب عن غيرهم في الذبائح والطعام والزواج والبيع والشراء من الكفار عموماً واضحة معلومة لا تتناقض ولا تختلف، وهذا وغيره جانب ، وأما مشاركتهم في شعائرهم وتهنئتهم بها فهو من حرمات الشريعة لأن في التهنئة الإقرار لهم في عقائدهم التي تناقض دين الإسلام وقد بينتُ ذلك بوضوح وجلاء في مقالي المنشور قبل أيام بعنوان حكم الاحتفال بالكريسماس ورأس السنة .. وللحديث في هذا الجانب بقية تأتي لاحقاً إن شاء الله.

د. عارف الركابي
صحيفة الإنتباهة