تحقيقات وتقارير

المرضى النفسيون في الشوارع.. الخطر يمشي على ساقين


لم تدرك الأم أن يومها سيتحول إلى سيناريو مؤلم عندما قامت بإرسال ابنها أحمد صاحب العشر سنوات إلى الدكان المجاور لشراء بعض مستلزمات البيت وببراءة الأطفال وجد شقيقه الأصغر جمال يلهو مع بعض الصغار فانضم إليهم، كان أبو ساطور وهو أحد المرضى النفسيين التائهين والهائمين في الشوارع يمر بالقرب من الصغار وفي حالة هياج فما كان من أحدهم إلا وأن قام برميه بحجر صغير فازداد هياجاً وأمسك بأحمد وشج رأسه بآلة حادة فقضى عليه في الحال وكرر نفس الأمر مع شقيقه الأصغر الذي تعرض لإصابات بالغة قضت بإدخاله العناية المكثفة بمستشفى النو لفترات طويلة لتصبح هذه الحادثة الأشهر في محلية كرري والتي اهتز لها الضمير الإنساني.

(1)

المشهد الآن .. حوادث مؤلمة

وحادثة مماثلة حدثت في مدينة ومدني بحي الطائف عندما تأهب الجميع لصلاة عيد الأضحى المبارك والشوارع تفوح منها رائحة العطور والبخور يعبق الأجواء خرج حسام من منزله بجلبابه ناصع البياض ولكن ألجمته الدهشه عندما وجد شخصاً كما ولدته أمه يقف أمام المزيرة المنصوبة تحت ظل شجرة النيم التي تبعد بأمتار من باب المنزل هرول مسرعاً إلى المنزل وخرج بعد بضع دقائق وهو يحمل جلباباً قديماً ستر به عورة من كان واقفاً طامعًا في الأجر والثواب من الله تعالى وتركه وذهب إلى المسجد للحاق بصلاة العيد وبعد مشوار من التبريكات والمعايدات وفي طريق عودته إلى المنزل بصحبة الجزار لذبح الأضحية ومن على بعد خطوات دوى صوت صراخ عنيف كان مصدر الصوت من منزله فأسرع الخطى لمعرفة ما يدور في المنزل ليتفاجأ بالشخص الذي كان يقف أمام المذيرة عارياً داخل المنزل ويحمل في يده سكينًا مضرجة بالدماء بعد أن قام بذبح والدة حسام التي أعدت كل أدوات الأضحية من صواني وسكاكين فكانت ضحية لأحد المرضى النفسيين في جريمة هزت أركان المدينة ولازلت أذكرها وصداها يتردد في مخيلتي.

2

بين النفايات والخيران.. تفاصيل محزنة

ومن الحالات النادرة التي صادفتني من خلال مشاهداتي في الشارع العام حالة “ودكة ” وهو أحد المعتوهين المعروفين بمدينة ومدني عاصر أجيالاً عديدة وأنفق نصف عمره بين النفايات والخيران والأزقة، وودكة هذا صاحب شخصية مزدوجة تارة تراه هادئاً ودوداً وتاره تنتابه حالة من الهياج والسلوك العدواني، أذكر ذات يوم كنا نلعب في أحد الأزقة ودون أن ندري باغتنا ودكة بهجوم كاسح وهو يحمل في يده سيخة فأطلقنا سيقاننا للريح، بيد أن أحد رفقائنا سقط علي الأرض فانهال عليه بالضرب فأصيب بكسر في ساقه وشج في الرأس وفي اليوم التالي ظهر ودكة ودوداً كأنه لم يفعل شيئاً، وما يثير الاستغراب أن هذا المعتوه يمتلك صوتاً طروباً ويحفظ أجزاء كثيرة من القرآن يتلوه على المارة أو أماكن التجمعات ويتعاطف معه بعض الناس ويمنحونه بضعة جنيهات ينفقها في السكر واستمر على هذا الحال الى أن اختفى في ظروف غامضة.

3

الأطفال.. حالات من التحرش

شخصية سلك بثيابه الرثة التي أشبه بالمعراكة لم تكن أحسن حالاً من ودكة فهما ابني جيل واحد، وربما يكون سلك أكثر شراسة من رفيقه، عاش سلك ما بين حي بانت والبحوث الزراعية، واتخذ من قضيب السكة حديد الموازي لشارع مدني الخرطوم قبالة المنطقة الصناعية ملاذاً له وفي كثير من الأحيان يتمدد على القضيب ويعرض نفسه للخطر مع قدوم القطار، وقد شكل سلك هذا مهدداً أمنياً لسكان الحي بحيث يقوم بالتحرش بالأطفال ومعاكسة الفتيات مما جعل كل سكان الحي في حالة تأهب واستعداد تام.

4

كتال النمل .. خذوا الحكمة من أفواه المجانين

ومن أشهر المعتوهين الذين عرفتهم أم درمان كتال النمل الذي يقطن إحدى الخرابات بمنطقة الشهداء، وقد ظل هذا المعتوه مصدر إزعاج لكل المارة ورغم أنه لا يميل إلى العدوان، ولكنه يجد متعة خرافية في إرهاب الآخرين دون ممارسة العنف ومن هوايته المحببة قتل النمل وتكتمل سعادته عندما يجد بيتاً للنمل تجده يقوم بقتله في سعادة غامرة، وفي كل صباح يقف في طرف الموقف ويقوم بتكويم ثلاثة كيمان من التراب ويصيح بأعلى صوته ويشير إلى المارة “الراجي الحكومة تنقلب يسف الكوم دا والولد ليهو جنا وراجي ينفعو يسف الكوم دا والدين زول قروش وراجي يرجعا يسف الكوم دا”، ثم يطلق قهقهات مجلجلة ويلقي بنظرة إلى الأرض بحثاً عن نمل حائم.

5

رؤية نفسية… وصمة متلازمة

يشير البرفيسور علي بلدو استشاري الطب النفسي و العصبي وأستاذ الصحة النفسية للصيحة إلى أن الظاهرة ترجع بالأساس للوصمة التي تلازم المرض النفسي و تجعل الأسر يتبرأون من مرضاهم أو يتبعون وسائل غير طبية ولا علمية في علاجهم كما يتزايد الاعتقاد بالخرافات والخزعبلات التي يطلقها البعض حول المرض وأسبابه مما يعيق الحالات ويؤخر العلاج ويفاقم الوضع أكثر وأكثر. ويبين بلدو أن تزايد الحروب والنزاعات والنزوح والتشرد واماكن الاضطرابات القبلية والأمنية تدفع البعض للجوء للشارع والاحتماء بالطرقات في ظل غياب جهات الاختصاص جنباً إلى جنب مع ضيق مواعين تقديم الخدمات الطبية بعد تجفيف مستشفى الخرطوم وأعمال الصيانة والتحديث بمستشفى التيجاني الماحي وقلة الكادر بمستشفى بعشر وعدم توفر مستشفيات صحة نفسية في الكثير من الولايات. ويضيف المختص الطبي المعروف أن تكلفة التشخيص والكشف والعلاج والمتابعة والأغذية مكلفة للغاية في الطب النفسي والبعض يعجز عنها وينقطع عن العلاج مع الأخذ في الاعتبار أن التأمين الصحي لا يغطي أكثر من الثلاثين في المائة تقريباً من هؤلاء المرضى عموماً ولا يوفر التغطية لمرضى الشوارع والمشردين لعدم وجود غطاء تأميني لهم مما جعلهم يهيمون على وجوههم في الشوارع والصواني والمنتزهات والزقة.

ويؤكد بلدو أن غياب الرعاية والتأهيل النفسي والعلاج المصاحب يسارع بانتكاس الحالات والعودة للشارع مجدداً، حيث أن الشارع اصبح الام الرؤوم للمرضى النفسيين في السودان، بعد أن تيتموا بسبب تخبط السياسات وضعف المعينات وفقدان الإرادة الحقيقية للتغيير الطبي والنفسي.

وعلى صعيد متصل يقول بلدو إن القتل والاغتصاب والاعتداء والسرقة وتدمير الممتلكات وهدم النسيج الاجتماعي والمطاردات وخدش الحياء والحمل غير الشرعي هي من أوائل العواقب لهذه الظاهرة متوقعا تزايداً مريعاً لها في الأيام المقبلة وتطوراً في الآثار اللاحقة، أما عن التعامل القانوني، فيشير بلدو في إطار إفاداته للصيحة أنه من المضحكات المبكيات ورغم ريادتنا في الطب النفسي عربياً وافريقيًا إلا أنه لا يوجد للآن قانون للصحة النفسية في حيز التنفيذ وتعمل به السلطات، إذ لا يزال في إضابير الإجازة النهائية التي نتمنى أن تكون قريباً، مشيراً إلى أن هذه الوضعية أدت إلى الاستعانة بقانون الإجراءات الجنائية والقوانين المصاحبة والمجاورة مثل قانون الطفل للعام 2010 والقانون الجنائي للعام 1991 وقانون الصحة العامة وقانون النظام العام وما شابه واشتهرت في هذا الإطار المادة 118 إجراءات المتعلقة بالحفظ والعلاج لكل مريض يشكل خطراً على نفسه أو على الآخرين وكذلك ما يطلق عليه الظواهر السالبة المشهورة في حملات النظام العام وطالب بلدو بضرورة تحمل الدولة مسؤولياتها والاهتمام بصحة المواطن النفسية وتوفير المطلوبات والمعينات والتعامل الشفاف مع المشكلة. مبيناً بأن لا أحد في مأمن من الخطر سواء كان فرداً أو مؤسسة متنبئاً بزدياد الحالات بحيث لا يخلو شارع أو ممر أو صينية من مرضى الشوارع، وأن فتيل القنبلة قد بدأ في الاشتعال ولن يستثني أحداً مهما كان عند انفجاره الوشيك.

6

المسؤولية… من يتحملها المجتمع أم الدولة؟

من ناحيته، يوضح الدكتور علاء الدين أستاذ علم النفس بجامعة الأحفاد أن كل فرد في المجتمع معرض للإصابة بأمراض نفسية نتيجة الضغوط التي يتعرض لها في مشوار الحياة والقلق المستمر وازدياد المشاكل وتفاقم الوضع الاقتصادي مشدداً بضرورة الاهتمام بالعوامل النفسية التي تحيط بالفرد من أجل تحصينه وداعياً الأسر بتحمل المسؤولية بشكل كامل ونوه د. علاء الى أن هناك وسائل أخرى توفر النمو النفسي السوي للطفل والتي تتمثل في مراكز رعاية الطفولة والأمومة، وخدمات الإرشاد التربوي والنفسي، وأكد أن المريض النفسي له حقوق لا بد أن تتوفر له سواء من قبل أسرته أو الدولة، مبيناً أن الجهل في مدى الضرر المترتب على المريض والمجتمع يجعل هذه الظاهرة تنتشر بصورة أكبر مع كثرة الضغوط التي يتعرض لها في المجتمع فالمريض النفسي لم يخلق لكي يعيش في الشارع ووجوده يخل بالأمن ويخلق نوعاً من التوتر المجتمعي.

وعن كيفية التعامل مع هؤلاء المرضى، يشير د. علاء إلى أهمية التعامل مع المشكلة بطريقة سليمة من خلال خطط مقننة من قبل الجهات المعنية وتقبل المريض النفسي ومعرفة كيفية التعامل معه وسط أفراد المجتمع فهو غالباً ما يتميز بالخوف ولا يمتاز بالعدوانية إلا في حالات نادرة من مدمني المخدرات مؤكداً أن المسؤولية مشتركة بين الأسرة والمجتمع فمن واجب الأسرة الذهاب بالفرد المريض إلى الأطباء ودور الرعاية المتخصصة للعلاج حتى الشفاء وعدم تركه في الشوارع وعلى الدولة القيام بإحصائية لهؤلاء المرضى وإعادة تأهيلهم نفسياً، لافتاً إلى أن رعاية المرضى النفسيين ليست مهمة سهلة لذلك يشعر الأهالي بالصدمة والإحباط لمجرد اكتشافهم أن أبناءهم يعانون من أمراض نفسية .

7

الدواء… انعدام يضاعف من ازدياد الحالات

وكشفت جولة للصيحة في عدد من الصيدليات عن ندرة في أدوية العلاج النفسي خاصة المتعلقة بالاكتئاب والصرع وقالت الدكتورة “ن، أ” صاحبة صيدلية شهيرة بأم درمان أن هنالك أدوية نفسية وعصبية انعدمت في الأسواق منذ العام 2016 وإنهم وصلوا مرحلة يقومون فيها بتقسيم شريط الحبوب وأضافت أن انعدام هذه الأدوية يشكل خطراً كبيراً على المرضى والمجتمع، لأن قطع العلاج قد يؤدي الى انتكاسة المريضة بشكل أخطر مما كان عليه وأشارت إلى أن انعدام الدواء أدى إلى انتشار المرضى النفسيين في الشوارع وطالبت بضرورة إيجاد معالجات عاجلة لهذا الأمر مشيرة إلى أن حتى الأدوية البديلة غير متوفرة.

وفي هذا الصدد، يعلق د. علي محمد علي استشاري الأمراض النفسية بقوله إن انعدام الأدوية العصبية والنفسية والمزمنة سيؤدي إلى موت الكثيرين الذين لا يتحملون انقطاع العلاج مما يؤدي إلى تدهور وضعهم الصحي وحدوث المضاعفات الخطيرة المؤدية الى الوفاة، وكذلك التعرض للصدمات والانتكاسات المتعددة التي تقضي على الأسرة ونقص الإنتاج وتفاقم المشاكل الاجتماعية بصورة تجعل غلاء الدواء وندرته بمثابة حكم الإعدام على المرضى والمرافقين. ويرى د. علي محمد علي، أن الحل يكمن في مجانية أدوية الأمراض المزمنة والابتعاد عن أوهام التأمين الصحي ومظلته الصغيرة وعدم جعل الدواء سلعة للمضاربة والسمسرة والسعي لبناء مخزون استراتيجي أسوة بالقمح والدقيق مع ضرورة توصيله لمستحقيه الحقيقيين .

8

روشتة.. رعاية من نوع خاص

وفي تعريفه للمرض النفسي، يشير بروفسور معتصم اللبيب، استشاري الأمراض النفسية والعصبية إلى أنه اضطراب يظهر على هيئة أعراض انفعالية ومعرفية وجسدية مختلفة مجتمعة أو متفرقة. الوضع الذي ينتج عنه تدهور في جوانب متعددة من حياة الإنسان، وهو ينتج عن تداخل عوامل نفسية واجتماعية وأسرية ووراثية، مع تفاوت تأثير كل عامل منها على المريض ورفض بروف اللبيب أن نطلق على المريض النفسي لفظ مجنون، أذ لا يوجد مرض اسمه جنون في تصنيف الأمراض النفسية، فعلى الرغم من كون هذه الكلمة دارجة في المجتمع السوداني إلا أن الأطباء النفسيين لا يفضلون استخدام هذا المصطلح، وحمل بروف اللبيب وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية مسؤولية ارتفاع نسبة المرضى النفسانيين التائهين في الشوارع وتزايدهم المستمر مشيرًا إلى أن هذه الفئة في المجتمع تحتاج إلى رعاية من نوع خاص واحتواء من قبل الدولة وإعادة تأهيل وتقديم يد العون والمساعدة لهم في ظـل عجـز الكثيـر مـن الأسـر عن استيعاب المصابين وتركهم في الشوارع . ويكشف بروف البيب أن جرائم المرضى النفسيين في الشوارع تعددت خلال الفترة الأخيرة ما بين قتل وسرقة، لافتاً إلى أن هناك بعض الأهالي الذين يرفضون إطلاق ذويهم في الشوارع حتى لا يطلق عليهم لفظ “مجانين”، وهناك من يتخلصون من تحمل مسؤوليتهم من خلال وضعهم في مستشفيات أمراض نفسية .

صحيفة الصيحة.