الصوفية في قلب المعترك السياسي!!
أنشد السمانية “أصبح زمنّا قصير” في الكريدة غرب النيل
تقع قرية أو مسيد الكريدة على الضفة الغربية من بحر أبيض على بعد كيلومتر واحد عن الكوة، بيد أن الماء الذي يفصل بين الكوة والكريدة جعل الطريق إلى المسيد يمر عبر جسر مدينة الدويم ثم يتلوى كأفعى بين غصون الشجر.. ويعبر مدينة أم جر و(حلال) صغيرة متناثرة على الضفة الغربية من النيل (المحرومة) من التواصل مع الجزيرة المروية قبل جسر الدويم.. وبسطت الطريقة السمانية نفوذها وتمددت في كل السودان.. وما بين الطريقة السمانية والأنصارية وحزب الأمة وثاق متين وحبل طويل ممتد من الجزيرة أبا إلى الكريدة والعرشكول و(العفينة) التي أصبحت (الحيلوة).. وصولاً لقرى شمال أم روابة حيث تنتشر خلاوى الصوفية من زريبة “البرعي” وأم قرقير التجانية و”حاج أحمد” رجل أم دم.
والسيارة التي يقودها الشاب “إبراهيم حسان” ود الكاملين تعبر الأرض الترابية (القرير) وتتناثر حبات الغبار العالق، ومئات السيارات تنهب الأرض نحو الكريدة التي تمثل واحدة من قلاع الصوفية وشيخها الراحل “محمد أحمد الشيخ عمر” المشهور برجل الكريدة يمثل معلماً وتاريخاً وضيئاً، وفي مثل هذا اليوم من كل عام ترد خلاوى الشيخ “عبد الرحمن البرعي ود وقيع الله” تحية الوفاء إلى شيخ ومعلم وأستاذ “البرعي ود وقيع الله” والشيخ “عمر” الذي درّس “البرعي” الكبير علوم القرآن وتخرج في الكريدة التي تجمع السادة السمانية من كل فج عميق.. وأول أمس، أي (الأحد)، العشرين من يناير.. التقت السياسة والسلطة.. الإٍسلام الصوفي والإسلام الحركي والقوة.. ورقة الطار وأناشيد الصوفية في باحة الكريدة غرب النيل التي ظل وفاء “البرعي” الراحل لشيوخها.. ورجالاتها وهم ينشدون:
سامحنا في التقصير وأصبح زمنا قصير..
جاء الصوفية، الشيخ “عبد الوهاب الكباشي” من السادة القادرية في شمال أم درمان.. والشيخ “العبيد ضرار العبيد ود بدر” في أم ضوبان والشيخ “الصاوي الشيخ الشاذلي”.. والشيخ “الفاتح عبد الرحيم ود وقيع الله”، والصوفية تتنافس وتتآزر ولا تتصارع.. وكان المشهد مهيباً والشيخ “حسن محمد أحمد” يقف بهامته وابتسامته يستقبل القادرية والمكاشفية والتجانية في الكريدة غرب النيل.
{ الصوفية في قلب المعركة
جاءت زيارة الرئيس “عمر البشير” إلى مسيد وخلاوى الكريدة في مناخ سياسي تصاعدت فيه حدة العراك بين دعاة (يسقط بس) وهؤلاء يمثلون قوى اليسار الثلاثي الحزب الشيوعي وحزب البعث والمؤتمر السوداني، ولم يجد تيار الحركة الإسلامية وحلفاؤها من الصوفية والسلفيين والقوى الاتحادية ونصف الأنصار وحزب الأمة والقوى الجهوية، والقوات النظامية من بد غير رفع شعار (يقعد بس).. ورغم تضاد الشعارين وما يستبطناه من ثنائية صراع بين الإسلاميين والعلمانيين إلا أن التيارات الصوفية قد قالت كلمتها في خضم هذا الصراع.. وإذا كان السمانية والأنصار والتجانية والشاذلية والختمية قد اصطفوا في الكريدة خلف (يقعد بس) فقد رفع أزرق طيبة في قلعة القادرية بأبي حراز شعار (يسقط بس)، لكن الثقل الكبير للقادرية بزعامة الشيخ “عبد الوهاب الكباشي” وقالت كلمتها في الكريدة.. وقد اختار الصوفية متحدثاً باسمهم جميعاً الشيخ “مبارك الشيخ برير” الذي رحب بالرئيس في الكريدة قبلة الأنظار ووصف زيارته بأنها (أوقفت) عقارب الساعة، وقال إن بعض الأصوات التي تهمس همساً دون إفصاح وتتحدث عن تغيير القيادة هي أصوات لا تمثل الصوفية ولا أغلب أهل السودان الذين (بايعوك أخي الرئيس) ومن بحر أبيض يقول لك الصوفية (دربك أبيض).. ووقف مشايخ الطرق الصوفية في المنصة الرئيسية من وراء الرئيس وهو يتحدث لآلاف من الجماهير التي جاءت من كوستي والشطيب ومن فشاشوية (أحمد) ومن قلي والجزيرة أبا والدويم والشيخ الصديق ومن زريبة “البرعي” وأم دم وأم روابة وأم كريدم.. وردد الشيخ “مبارك وخلفه الآلاف:
نحن حماك وفداك وبالدماء نبتل..
ورحب الشيخ “الفاتح عبد الرحيم ود وقيع الله” بالرئيس في الكريدة التي ينتمي إليها الشيخ “البرعي”، وقال الشيخ “الفاتح”: (نحن مع جمع صف الأمة ونبذ التخريب وندعو لما يجمع ولا يفرق وأن تكون كلمة الأمة واحدة وقبلتها واحدة).
{ طلباتك عندنا مقبولة
عندما طلب والي النيل الأبيض د.”أبو القاسم الأمين بركة” في كلمته من الرئيس تشييد مجمع إسلامي لتحفيظ الطلاب القرآن الكريم وتدريس علومه.. فعند نهاية خطاب الرئيس لم يشأ رد طلبات الوالي “أبو القاسم الأمين بركة” فقال الرئيس (تصدق) بكل طلبات الوالي الشاب.. قالها الرئيس وابتسم.. وكانت جماهير الكريدة حينما صعد الوالي لمخاطبتها قد رددت بعفوية (قلبك أبيض في بحر أبيض) وارتفعت أصوات تقول (حاسم حاسم أبو القاسم).. وحشد الصوفية في الكريدة يمثل شهادة ميلاد جديدة لحكومة الوالي “بركة” الذي عدد أسماء خلاوى الطرق الصوفية من العرشكول والياقوت والشيخ المري والشيخ الخنجر والشيخ العقلي، كان الذي يتحدث ولد في الكوة.. وقال الوالي إن ولايته أنجبت ثلاثة رؤساء حكومات سابقين “سر الختم الخليفة” و”محمد أحمد المحجوب” و”التجاني الماحي”.. وهي ولاية خرج من رحمها عالم الفيزياء “محجوب عبيد” و”عبد الباسط سبدرات” وأولاد “سليمان” “غازي” و”بدر الدين”، و”نقد” و”عمر نور الدائم” وبروفيسور “إبراهيم غندور” والشاعر “التجاني حاج موسى” والفنان “ود البكري”.. ولاعب المريخ “دحدوح”.. و”بشير إبراهيم” الذي كتب لـ”إبراهيم عوض” (يا سلوى أنا قلبي شن سوى).
وطلب الوالي “بركة” من الرئيس بصفته مفوضاً من قبل الشعب أن يمضي حيث شاء وكيف أراد.
{ زعيم الجعليين والرزيقات
كان لافتاً الحضور الكبير لناظر عموم الجعليين المك “بابكر عمر” بهيبته وعصاه.. ومن خلفه قيادات تعددت مشاربها، وفي مقدمة هؤلاء الفريق شرطة “أحمد عطا المنان” الذي فقدته الشرطة حيث تمت إحالته للتقاعد بصورة مفاجئة.. وتجاوزته حكومة الوفاق الوطني فأضاعت على نفسها والياً.. وبجانبه رجل الأعمال الشاب “وليد الفايت” المدير العام لشركات الطرق والتجارة.. وهو شاب اتهم ضمن حملة القضاء على القطط السمان وتم إطلاق سراحه بعد ثبوت براءته ونقاء مسيرته وهو ناشط في التجارة والطرق بدارفور.. وبجانب “وليد الفايت” “مصعب حسن أحمد البشير”.. وهم أركان نظارة الجعليين التي تم إحياؤها في السنوات الأخيرة لإعادة أمجاد “المك نمر” مرة أخرى.
وكان لنظارة الرزيقات من غرب السودان وجود في الاحتفالية بحضور رجل الأعمال “آدم عبد الرحمن” الشهير بـ(أبو دومة) وهو صديق حميم للرئيس “عمر البشير” الذي قال في كلمته إن ما يجمعه بالكريدة غرب النيل ليست أواصر الرحم مع الشيخ “حسن محمد أحمد عمر” وشقيقه “أسامة محمد أحمد” الذي لعب دور (المهندس) لاحتفالية السمانية (الأحد) الماضي، ولكن يجمعه- والحديث للرئيس- بالنيل الأبيض والسادة الصوفية أواصر الدين وكلمة لا إله إلا الله.
{ تفاصيل مثيرة
في زيارة الكريدة كان مفاجئاً وجود شخصيات عسكرية بارزة يتقدمهم الفريق “عبد الفتاح البرهان” نائب رئيس هيئة الأركان واللواء “ياسر العطا” ابن أخ الرائد “هاشم العطا” مدير إدارة العمليات وهو ضابط عرف بالشجاعة والولاء الشديد للرئيس “عمر البشير”.. وجاء في وفد الرئيس مساعده ونائبه في الحزب د.”فيصل حسن إبراهيم” وأمين الاتصال التنظيمي “حامد ممتاز” الذي خرج من رحم بحر أبيض إضافة إلى د.”فيصل عبد الله” وزير رئاسة الجمهورية.
وفي حديثه للجماهير قال الرئيس إن أهالي منطقة بحر أبيض صادقون في مواقفهم لا يعرفون الرياء والنفاق، وكشف الرئيس معلومات جديدة حول حادثة مقتل (الطبيب) “بابكر عبد الحميد” يوم (الخميس) الماضي بسلاح خرطوش من قبل عناصر مدسوسة بين المتظاهرين تمارس القتل لحساب حركة “عبد الواحد محمد نور” بعد أن اعترفت مجموعة تم القبض عليها بذلك.. وقال الرئيس إن السلاح قتل به الطبيب لا تحمله أي من القوات النظامية، الشرطة أو الأمن، ولا وجود لمثل هذا السلاح في السودان في الوقت الراهن.. وعدّد الرئيس الأسباب التي دفعت قوى دولية قال إنها معادية للعروبة والإسلام إلى شن الحرب على السودان، وهي قوى متآمرة، وقال إن المكر والحصار والحرب التي تعرضت لها البلاد في السنوات الماضية كانت كفيلة بإلحاقها بالدول التي سقطت وتبعثر صفها وأصبح مواطنوها لاجئين، وقال إن الحصار الدبلوماسي والحرب الإعلامية والتمرد في الأطراف لن يوهن عضد الدولة ويفتتها.. ويقضي عليها.. وقال إن الجنوبيين الذين رفضوا الوحدة مع الشمال واختاروا الانفصال عادوا اليوم مرة أخرى، وفتح الشمال لهم قلبه وأرضه وأطعمهم من جوع وأمنهم من خوف، وتلك من أخلاق وقيم الصوفية في البلاد الذين قدموا الدين والعجين.. ورفض “البشير” أن يأكل شعبه من ما يجود به الأجانب من الأوروبيين وغيرهم وتمسك بالانتخابات فقط معتبراً الطريق إلى السلطة يمر عبر صناديق الاقتراع بعد عام من الآن، وأي مرشح يحظى بثقة الشعب ويصوت له الناس فإنه مستعد لتسليمه السلطة.. وقال إن العام القادم ليس ببعيد.. ولكن الجماهير قاطعته بشعار (تقعد بس)!!
انفضت لقاءات وحشود السياسة وعادت الطائرة الرئاسية للخرطوم، ولكن بقيت حشود القادمين من الأصقاع النائية يفترشون الأرض يشهدون القرآن والأذكار وضرب الطار في ساحات النوبة والدراويش بأزيائهم المزركشة في حالة من النشوة الروحية.. والتجار يعرضون بضائعهم من كل صنف ونوع، والملابس والمأكولات والمشغولات اليديوية.. وفي الكريدة غرب النيل يلتقي أهل السودان من الشمال والوسط والغرب والجنوب ويشهدون منافع لهم.. ويبحث السياسيون أيضاً عن تصريف بضائعهم كل بطريقته الخاصة.. والجميع يتقربون للصوفية، لكن الرئيس “عمر البشير” ظفر بحبهم ومساندتهم له في معركة ما بين (يسقط بس) و(يقعد بس)!!
صحيفة المجهر السياسي.